ذات مرة، سألت محمد بن إبراهيم آل الشيخ (رئيس الإفتاء في السعودية) عن رأيه في مظلمة العمال السعوديين المطرودين من شركة «أرامكو» الأميركية، وفي إحلال عمال أجانب بدلاً منهم. فقال إنه لا دخل له في السياسة. وقضية العمال هي قضية سياسية لا يجوز لعلماء الدين الخوض فيها. أما عن إبعاد العمال العرب بواسطة الأميركيين وإحلال عمال أجانب مكانهم، فهذا جائز شرعاً، لأنّ ديننا لا يبيح أن يعمل المسلم تحت إمرة الأميركي الكافر. قلت له: «إننا لم نذهب إلى أميركا، بل الأميركيون جاؤوا لبلادنا ،فما هي الفتوى التي تبيح سرقتهم لزيت بلادنا وخيراتها؟».
قال: «الأميركيون يُصلحون في الأرض ولا يفسدون، وقد عمروا أرضنا بعد أن كانت خرابا». قلت: «إن الأميركيين يفسدون الأرض والضمائر معاً. حتى إنهم استأجروا قضاة شرعيين يفتون لهم؛ وهناك واحد في الرياض يدفعون له راتباً قدره 12 ألف ريـال ، وآخر في جدة، وآخر في الظهران وكل منهما له راتب قدره 6000 ريـال «. فقاطعني قائلاً: «إذا ثبت ما تقول، فإن هذا يدخل ضمن الوظيفة والأجر مقابل العمل المشروط. إذا وظفوا هؤلاء العلماء، فهذا جائز شرعاً». قلت: «إنك تقول إنه لا يجوز للعمال العرب العمل لدى الأميركيين، فكيف يجوز أن يعمل رجال الدين لدى هؤلاء؟ وكيف تجوز هذه الفتاوي وهذه الدراهم، ونحن نعلم أنها لا تدفع لهم إلا للإفتاء ضد العمال؟».
أمر عبد العزيز جنده بضرب الشيخ صالح القاضي بعصيهم على سرّته

قلت هذا للمفتي وأنا أقصده به. فمحمد بن إبراهيم آل الشيخ هو صاحب المرتب البالغ 12 ألف ريـال شهرياً الذي كان يدفع له من شركة أرامكو من طريق مكتب العلاقات الحكومية «كوفرنمنت رليشن». وهو مرتب خصص للإفتاء في الشؤون العمالية.
ثمّ قلت للمفتي: «سبق أن أفتى قاضي الظهران بالقول أيضاً إنّ الأميركيين قد أحيوا أرضنا. إنّ الحديث الشريف يقول {من أحيا أرضاً ميتة فهي له}، فما رأيك بهذا؟». فبدا الغضب على وجه المفتي، وقال لي: «البلد كلها عائشة على الأميركيين. قم، قم. قلت لك إنه لا دخل لي في السياسة». وحاول عمل شيء ضدي. فخرجت من عنده.
(...) هذا هو حال مفتي القصور السعودية؛ أمّا المشايخ الصالحون أمثال قاضي منطقة بريدة الجليل الشيخ إبراهيم بن عمر، فحالهم حال آخر. لقد طلب منه عبد العزيز ابن السعود أن يفتي له بتكفير المعارضين في الجزيرة العربية، ومنهم أهل حائل وكل من يقف ضد الإنكليز والسعوديين، فردّ القاضي ابن عمر قائلاً: «لا يمكن أن أقول إنهم كفرة. فالدين يقول إنّ من كفّر مؤمناً فقد كفر!… وحتى لو كانوا كفرة، فالقرآن الكريم يقول: لا إكراه في الدين... وأنت لست نبياً يا ابن السعود… ومحمد عليه السلام أخبرنا بقوله: لا نبيّ بعدي... أما عن الأتراك، فكل ما أفتي به أننا لا نقبل تدخلهم في بلادنا. ونحن ضدهم ولا تنسى أننا حاربناهم يوم كنت أنت ووالدك عبد الرحمن تتلقى معونتهم إلى أن قطعوها أخيراً بعد تعاملكم مع الإنكليز. وأنا لا أريد أن أكفّر أبناء ديني ووطني لمصلحة الإنكليز. وأعرف أنه ليس لديك من السلاح والمال ما يعينك لتحارب به، بل السلاح والمال هما سلاح الإنكليز ومالهم يدفعونه لك لتحارب به المسلمين. فكيف تريد مني تكفير أهل نجد وأهل الحجاز وأهل الجوف وعسير واليمن وجميع العرب... وأنا أرى الإنكليز الآن يسوقونك لحرب المسلمين؟!».
ونزل هذا القول كالصاعقة على رأس عبد العزيز آل سعود حيث أمر بحفر حفرة عميقة وربط يدي القاضي الجليل إلى ظهره وأخذوا يجرونه من لحيته حّتى أوقفوه على شفا الحفرة. وقال له عبد العزيز: «هذا قبرك. فإذا كفّرت أعداءنا نجوت من الموت، وإن رفضت فسندفنك فيه حياً». فأجاب ابن عمر بقوله: «أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن الموت حق، والظلم باطل، ولن أكفّر إلا المعتدين الإنكليز، ومن يركن لهم من الظالمين...». عند ذلك قذفوا به في الحفرة، وأحرقوه بالنار، ثم أهالوا عليه التراب وهو حي. وبهذه الطريقة السعودية استشهد القاضي الجليل ابن عمر. وأمّا القاضي الشيخ إبراهيم بن جاسر، فقد طلب السعوديون منه المطلب نفسه (تكفير العرب المؤمنين المسلمين في نجد والحجاز والجوف والأحساء وعسير واليمن) ممن قاوموا الظلم السعودي. ولما رفض ابن جاسر تنفيذ باطل أقوالهم، نفوه إلى الكويت، فمات في المنفى.
(...) ومثال آخر للصدق، يتمثل في الموقف المشهود الذي وقفه الشيخ الجليل صالح العثماني القاضي، في وجوه هؤلاء السعوديين. فأمر عبد العزيز جنده بضرب الشيخ صالح القاضي بعصيهم على سرته، وهم يرددون: «هذه الكرش المليئة بالكفر في حاجة إلى بقرها وتطهيرها من الزندقة!». ولم يقدر عبد العزيز أن يقتل الشيخ صالح القاضي إمام الجامع الكبير في عنيزة، لكنه كان يخرج يوم الجمعة تاركاً الصلاة وراء هذا الرجل الذي كان يصلي خلفه كل أهل البلد. وكان عبد العزيز بن سعود يظن أنه سيضايق الشيخ صالح القاضي «بهجره» له، وتجنبه للصلاة وراءه؛ ثمّ اضطر ابن سعود أخيراً إلى مقابلة الشيخ القاضي والاعتذار منه، لغاية في نفسه، فلم يقبل القاضي منه عذراً. بل قال له: «عذرك مردود يا ابن سعود، وسرّتي هذه التي تريدون تطهيرها من الكفر، كما يقول جندك، لم تعتد على أكل المحرمات. وأنا لا أتشرف بأن يصّلي خلفي من يخضع للإنكليز، ويطلب مني تكفير المسلمين».
إنّ مثل هؤلاء الشيوخ هم الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر حقاً، وليس «النواب»... ولعلك لم تسمع أيها الإنسان البعيد عنا بكلمة «نائب». فإن سمعت بها، فلا يبدر لذهنك أنه قد أصبح لدينا مجلس أمّة، أو مجلس شعب، أو مجلس نواب... وأن هناك «نواباً يمثلوننا.. حاشا، وكلا، أن يمثّل شعبُنا تمثيلاً حقيقاً، ما وُجدت عائلة آل سعود، في الوجود. إنما النواب يا صاحبي هم أعضاء «هيئة الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف». ولطلاب مدينة بريدة قصص كثيرة مع هؤلاء، نذكر منها على سبيل المثال انتفاضة الطلبة عام 1957، حينما طوّقوا قصر أمير بريدة محمد بن بتال، ورجموه بالحجارة، وهم يهتفون بسقوط الحكم الظالم وتجار دينه الذين يطلق عليهم زوراً اسم «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، وما هم إلا عكس التسمية تماماً. وقد قامت تلك الانتفاضة الطلابية احتجاجاً على ما قامت به هيئة «الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف» في بريدة، من جلد بعض الطلبة بحجة أنهم «يركبون احصين إبليس، ويمشون خارج بيوتهم بين العشاوين»... وترجمة هذا الكلام يعني: أن الطلبة يركبون عجلة «البايسكل»، ويخرجون من بيوتهم في فترة ما بين المغرب والعشاء! وركوب المواطنين للدرّاجات حرام، لكن ركوب رجال الدين والأمراء واللصوص للسيارات الفخمة المسروقة من حقوق العمال والفلاحين وأبناء البادية الجياع مباح! ومن المعلوم أنّ حالة الطوارئ مطبقة في عدد من مناطق ما يسمى السعودية منذ عام 1901 حّتى يومنا هذا، إذ يحرم على المواطنين السير في الشوارع أو السهر في البيوت ما بعد الساعة التاسعة ليلاً. وهذا يرجع إلى خوف الاحتلال السعودي من التجمعات.
(...) وإذا كان ذلك هو حال المطاوعة والمفتين السعوديين، فإنّ حال القضاة أشنع. ولكن ما حاجة آل سعود إلى قضاء، وهم بذاتهم وأحكامهم قضاء مبرم على الناس (...) ولنضرب لقضاء الأمراء، مثلَ عبد الله بن جلوي الذي وضعه ابن عمه عبد العزيز بن سعود حاكماً على الأحساء مطلق اليدين والقدمين. فأخذ يبطش بالشعب ويسوق المواطنين سخرة لبناء قصوره، ويفرض الضرائب الفاحشة على الفلاحين باسم «الزكاة»، و»الجهاد»، و»ضريبة الحفاظ على الأشخاص»، و»ضريبة الحفاظ على الأعراض»... ومما هو مشهور عن ابن جلوي أنه يرسل عبيده إلى بعض المواطنين لجبي الضرائب منهم، وإذا ما قابلهم الشخص المطلوب في الطريق العام ولم يكن في جيبه شيء واعتذر، أوقفوه في مكانه، وخطوا دائرة من حوله في الأرض. وأقسموا له بقتله لو برح هذه الدائرة. ويقف الشخص تحت الشمس مكانه، لا يبرحه، حتى يرسل من يأتيه بمطلب العبد السعودي، أما إذا لم يجد العبد شيئاً في جيب المواطن ولا في بيته، فإنه يقتاده من الطريق إلى السجن.
(...) وحتى بعد تدفق مليارات البترول، ما زال آل سعود يرسلون أذنابهم من «الخراصين» لجمع ضرائبهم من البادية والفلاحين والمواطنين. ومن هذه الضرائب التي فرضوها على شعبنا في كافة أنحاء الجزيرة العربية إضافةً إلى ضريبة الزكاة، وضريبة حماية الأعرا ض، وضريبة المكوس والجمارك… فهناك أيضاً ضريبة الجهاد في سبيل الله. ثم ضريبة فلسطين والدفاع عنها! وأخيراً ضريبة مرضى السل! والذين يقومون بجباية هذه الضرائب مجموعة من الجهلة الأميين واللصوص الذين يستولون على ربع ما يجبونه من الشعب، أما الربع الثاني فلحكام المناطق، وأما النصف الآخر فللعائلة السعودية، تأخذه من الفقراء لتنفقه في «جهاد الحريم الاكبر». وكثيراً ما يصادر «الخراصون» أراضي الفلاحين ونخيلهم ومزارعهم، وإبل وأغنام أبناء البادية بحجة «أنهم أخفوا شيئاً مما أوجب الله عليه دفعه من زكاة لآل سعود»!
ومن مهازل أحكام عبد الله بن جلوي، نورد على سبيل المثال لا الحصر، قصة المواطن الفقير السقاء (بائع الماء) محمد الدحيم من محلة الرقيات بالأحساء الذي أرغمه ابن جلوي على بيع بنته ليسدد له ضريبة «الجهاد المربوع»(...) ومعنى «المربوع» أن يدفع المواطن الفقير للحاكم الضريبة أربع مرات في السنة. وليس هناك من إجراءات تسليم واستلام أو سجلات تثبت أن آل سعود قد استلموا شيئاً من المواطن الذي لا يقبل قسمه ولا عذره ولا شهادة فقره.
وهناك قصة أخرى للمواطن علي بن صالح الذي جاء ليثبت أنه لا عمل له ولا مورد ولا أطفال يبيعهم أو يرهنهم لتسديد ما فرضه ابن جلوي عليه من ضرائب بحجة حماية عرضه من الكفار! فأمر ابن جلوي بربطه من يديه ورقبته بحبل إلى مؤخرة حصان ركبه أحد العبيد، وأخذ يجره في الطرقات حّتى مات، بعد أربع ساعات من الجرّ.
وهناك ألوان أخرى من «جهاد آل سعود في سبيل الله»، فقد وهبوا مساحة أرض شاسعة تملكها البلدية لرجل دينهم الشيخ عمر بن حسن آل الشيخ فباعها إلى البلدية نفسها بملغ مائة ألف ريـال. واستولى أحد أبناء الملك سعود على أرض الزقيقية، وأخذ يبيعها للمواطنين. وأشاد الملك سعود قصراً في الرقيقة بـ 40 مليون ريـال. واستغرق بناؤه ثماني سنوات دون أن يعمل فيه أي عامل من عمال الجزيرة العربية. وصرح الملك بعد ذلك بقوله: «إنني أشيّد هذه القصور لأطمئن الشعب إلى أنني أعيش إلى جواره».
(...) وأخذ آل سعود يثيرون الفتن بين أبناء السنّة وأبناء الشيعة ويهدمون مساجد أبناء الشيعة، ولا يقبلون شهادة الشيعي، ولا صلاته، ولا صيامه، ولا يصلون عليه إذا مات، ولا يصلون خلفه، ولا يشربون من الماء الذي يشرب منه، ولا يأكلون طعامه (بينما يبيح تجار دينهم طعام المستعمرين الإنكليز والأميركيين) والنتيجة أنّ أكثر من مليون مواطن من الأحساء والقطيف نزحوا للعراق. وأكثرهم هاجر إلى البصرة والزبير، هرباً من الظلم والفتك والنهب السعودي. ثمّ يدعون أنه لا يوجد عدل في الدنيا إلا العدل السعودي، ولا يوجد أمن في الدنيا إلا أمن السلالة السعودية!
(...) ولقد جاء إلى عبد الله بن جلوي أمير الأحساء، مواطن يدعى سعيد الفياض يشكو إليه أن جملاً يملكه علي العجمي، قد أكل شيئاً من بلح نخله. فأرسل ابن جلوي يطلب «المدّعَى عليه». ولمّا مثل بين يديه أصدر التشريع الآتي: يُبقر بطن الجمل، فإذا وُجد فيه البلح وجب أن تقطع يد المدعي عليه، وينحر جمله. وإذا لم يوجد البلح فإن قطع اليد سيكون من نصيب المدّعِي (سعيد الفياض) بالإضافة إلى تغريم المدعِي ثمن الجمل. فاعتذر سعيد الفياض، وتنازل عن الدعوى لأنّ من الطبيعي أن لا يكون للبلح أي أثر في بطن الجمل بسبب هضمه اياه، ولمضيّ مدة طويلة على أكله البلح… ولكن ابن جلوي لم يقبل هذا التنازل، فأمر ببقر بطن الجمل. وبالطبع لم يجد أثراً للبلح، فأمر بقطع يد المشتكي مع تغريمه قيمة الجمل! وحين حاول المشتكي أن يسترحم ابن جلوي ليعفيه من قطع اليد لأنه هو صاحب الشكوى، على أن يكتفي بتغريمه أضعاف قيمة الجمل؛ أصر الأمير السعودي على قطع يد المدعي. فقطعت من أجل حفنة من بلحه أكلها جمل المشكو عليه، ولم يُعثر عليها في بطن بعيره!
(...) إنّ هذا الطاغية مات بعد ذلك بأتفه الأسباب المضحكة. لقد مات بقرصة من «جُعْل» [نوع من الخنافس] عضّه بين خصيتيه! (...) ولقد ورمت خصيتاه في الحال، وتقيّحت في اليوم التالي.. فاستدعى إليه عدداً من المشايخ ومحضري الجن لتلاوة التعاويذ حول شرجه وخصيتيه والدعاء لهما بالشفاء. وحينما لم ينفع الدعاء، استدعى طبيباً أميركياً من البحرين اسمه الدكتور ديم. وبعد فحصه له، قال الطبيب: «إن سموَّه مصاب بارتفاع شديد ومزمن في مرض السكر. وأن عضة الجعل لخصيتي سموه قد تحولت إلى «غرغرينا»، وأنه لا بد من بتر خصيتي سموّه وقضيبه، على عجل، وإلا تآكل لحم جسمه كله. فرفض عبد الله بن جلوي أن يقطع الطبيب «هيبة الحكم». واستمر علاج مشايخ الدين السعودي لشرج ابن جلوي بالتفال والتعاويذ! واستمرت «الغرغرينا» تفتك في شرجه وأسفله، لتثأر لآلافٍ ممن قطع أيديهم وأرجلهم ورؤوسهم وأوصالهم، حتى مات الطاغية.
* (مقتطفات من كتاب «تاريخ آل سعود» لناصر السعيد)

في عدد الأربعاء:
آل سعود يمحون آثار النبي في مكة



■ للإطلاع على كتاب «تاريخ ال سعود» انقر هنا