ترتبط ذكرى عيد المقاومة والتحرير، عند الطالبة منى قشمر (16 سنة) بعودة والديها من مدينة بيروت للسكن في «الشريط المحرّر». وفي شهر أيار من كلّ عام، تتكرّر على مسامعها حكايات التحرير والاحتلال، التي يرويها أهلها والأقارب، من دون أن ترى ما يخلّد هذه الذكرى «سوى صور الشهداء الذين لا أعرف عنهم الكثير». أما الزنازين التي كان الاحتلال قد أقامها، ومواقعه العسكرية السابقة «فقد سُوّيت بالأرض»، إذ حرصت قوات العدو الاسرائيلي على تدمير كلّ ما يدلّ إلى جرائمها، وخصوصاً معتقل الخيام الذي دمّرته على نحو منهجي خلال عدوان تموز 2006.
هنا، في «الشريط المحرّر» تنتقد منى كل شيء: «لا أثر لوجود الدولة حتى في إحياء مناسبة التحرير». لذا تفضّل أن يعود أهلها للسكن في بيروت: «أحب هذه المدينة كثيراً برغم أنني محرومة زيارتها بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة، أما التحرير نفسه فهو يكاد لا يعني لي شيئاً لأنني لم أعش في زمن الاحتلال والمقاومة».
هذه المشاعر التي تعبّر عنها منى بصراحة، لا تشبه بشيء ما يعيشه والدها في هذه الأيام بالذات. مناسبة «التحرير» بالنسبة إلى والد منى، ليست «مجرّد ذكرى عابرة بالنسبة إلى شباب المنطقة الحدودية، بل سيرة حياة، يستعيدون معها شريطاً طويلاً من الذكريات المسجّلة في ذاكرة كلّ من عاش مرحلتَيْ الاحتلال والتحرير».
مع مرور خمسة عشر عاماً من عمر التحرير، كبر جيل كامل لا يعرف شيئاً عن الاحتلال، لكي يعرف ما يعنيه التحرير. شبان تراوح أعمارهم بين الخامسة عشرة والعشرين لم يعيشوا تلك الفترة، أو يكادون لا يذكرون شيئاً عنها. جيل كامل باتت ذكرى التحرير في مخيلته عبارة عن أحداث نقلت إليه سماعاً من الأهل والأقارب، أو عبر شاشات التلفاز ومواقع التواصل الاجتماعي. جيل لا يعرف الاعتداءات الاسرائيلية اليومية وحواجز الملتحقين به من العملاء الذين أمعنوا في انتهاك حقوق أبناء قراهم وكراماتهم، كما لا يذكر شيئاً من الأعمال البطولية التي سطّرها رجال المقاومة على مدى سنوات طويلة، وتلك العمليات العسكرية النوعية التي أدّت مراراً إلى احتلال المواقع الاسرائيلية واللحدية التي كانت ترفع على قممها أعلام المقاومة.

لا يزال العمود الكهربائي
المائل في مكانه من
دون تصليح


كلّ ما تسمعه فاطمة حيدر (18 سنة) عن التحرير «يشبه القصص التاريخية الجميلة، لكن يبدو أنها لم تستغلّ جيداً، بدليل أننا لا نعرف عن الاحتلال إلا تلك الحكايات التي يرويها لنا أهلنا واقرباؤنا، الذين عايشوا تلك الفترة الصعبة، حتى إن أوضاعنا الاقتصادية والأمنية لا تبدو أفضل من أيام الاحتلال، باستثناء ما خصّ القوة والعزة اللتين نتحلى بهما الآن».
الإهمال، وترك الأهالي يبحثون عن لقمة العيش المرّة، جعلا فاطمة ترى في يوم التحرير «فرحة تخصّ أبناء الجيل السابق، الذي ذاق مرارة الاحتلال فقط، أما نحن، فنذوق اليوم مرارة ظلم من نوع آخر، تتعلق بالبطالة والبحث عن فرص العمل، وبشباب لا يستطيعون بناء المنازل وغير قادرين على الزواج، يفضلون الهجرة، أو يضطرون للدفاع مجدداً عن قرانا خوفاً من احتلال من نوع آخر، ويعودون إلينا شهداء، نتحدث عن قصصهم وبطولاتهم التي يبدو أنها لن تنتهي». تؤكد فاطمة أنها تسمع دائماً «كلاماً جميلاً وممتعاً عن التحرير، يقولون كانت المرارة صعبة والكرامة مداسة، لكن أمي تقول أيضاً إن أبناء البلدة كانوا أكثر رحمة على بعضهم بعضاً».
تتحدث لارا (19 سنة) ابنة بلدة رميش (بنت جبيل) عن صورة واحدة عالقة في ذاكرتها منذ كانت في الرابعة من عمرها. والصورة هي لاصطدام دبابة اسرائيلية هاربة بعمود كهربائي، جعل الجنود يتركون دبابتهم ويولون مدبرين بواسطة دبابة أخرى. تقول لارا إن صغار البلدة وكبارها يعرفون هذه القصة جيداً برغم مرور 15 سنة على التحرير، «لأن العمود الكهربائي المائل، لا يزال في مكانه ولم تعمد مؤسسة الكهرباء إلى إصلاحه، وبقي في الذاكرة التي يُستدَّل بها إلى ذلك الحدث من جهة، وللسخرية من الدولة ومؤسساتها التي لم تقو على تغيير أحوال الناس بعد 15 عاماً على التحرير من احتلال استمر لأكثر من عشرين سنة من جهة ثانية».
«غصّة في القلب» أحدثها السؤال الذي طرحه محمد أحمد على تلامذته في الصف الثالث الثانوي، عما يتذكرونه عن أيام التحرير والاحتلال. كان يريد، على حدّ قوله، أن يعيد ذاكرة هؤلاء «إلى أيام يقارن من خلالها بين زمن الاحتلال وزمن التحرير»، لكنه أدرك فجأة أن السؤال باتت الإجابة عنه صعبة «لأن الجيل الجديد لم يعش فترة الاحتلال والتحرير». جميع طلاب الصف قالوا «لا نعرف شيئاً، لقد كنا صغاراً، يقولون لنا إن أيام الاحتلال كانت قاسية، لكن ما يهمنا اليوم أن هذا الزمن لن يعود».
إلى اليوم، قد يكون هذا الشعور بالأمان هو الأمر الملموس الوحيد الذي تحقق بالنسبة لأهالي القرى الحدودية. غير ذلك، لم تغير الدولة عاداتها معهم، فيما بقيت المقاومة على عهدها. وفي بيوت المقاومين، يمكن الاستماع إلى آراء مختلفة، إذ يروي محمد، أحد المقاومين، أنه شعر قبل خمس سنوات بأن أولاده لا يعرفون جيداً «معنى التحرير ومقاومة الاحتلال». بدأ يحكي لهم عن زمن الاحتلال القاسي الذي عاشه الجنوبيون «وكيف كنّا نعاني الأمرّين لنصعد تلال العدوّ ونحرّرها». وهو اليوم يقول ضاحكاً: «لقد أكمل أولادي مسيرة أبيهم، وهم ليسوا بحاجة إلى العودة إلى الماضي وأمجاده لمعرفة المعاناة التي كان يتكبدها المقاومون، بل أصبحوا يمازحوننا بسخرية قائلين: بتنا نصعد جبالاً ترتفع أكثر من 2000 متر، بينما لا يزيد ارتفاع التلال التي حرّرتموها على 1000 متر».
تغيّر كلّ شيء بالنسبة إلى واقع المقاومة، عند أبناء الجيل الجديد «الذين انطلقوا أقوياء، وهم يحملون تاريخاً من البطولات. لديهم ثقة بالنفس، ويتحدثون بطلاقة عن طاقاتهم وقدراتهم وأعمالهم العسكرية. لقد تغيّر الماضي، لم يعد المقاوم يعمل سرّاً، بل أصبح يتحدث عبر هاتفه من قلب المعركة»، يقول مقاتل مخضرم، معبراً عن أن «ما يحدث اليوم للمقاومة، أشبه بالحلم الذي لا نستطيع تصديقه، لقد أصبحت بطولاتنا السابقة، وان كانت أكثر متعة وروحانية، مثل نقطة في بحر من البطولات التي تحصل كل يوم في معاركنا الجديدة».