منذ البداية، لم تكن هناك قيمة للقانون في نظر الأفرقاء السياسيين. لم يلبث الدستور وآليات انتظام الحكم، من موازنة وتشريع وغيرهما، أن فقدت قيمتها أيضاً، قبل أن يفقد الوقت وكل المواعيد الدستورية قيمتها أخيراً، لتتمادى غالبية القوى السياسية تالياً بالنوم، من دون اضطرار لتصنّع المبالاة بهموم من تمثّلهم. ففي ظل الخدر الشعبيّ الكامل، يفتح الرئيس نبيه بري المجلس النيابي، بين عام وآخر، ليبايع وأعضاء المجلس أنفسهم لولاية إضافية ليس فيها تشريع أو مراقبة للسلطة التنفيذية أو محاسبة، فيما يفضل الرئيس سعد الحريري عدم تعريض نفسه لـ»خطر الاستقرار في بلده» ما دامت السلطة تدرّ عليه الأرباح المالية اللازمة وهو بعيد. أما رئيس الحزب التقدمي النائب وليد جنبلاط، ورئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، وسائر الطقم السياسي، فسيسرون بالتفرج أعواماً إضافية على ما يفترضونه استنزافاً لحزب الله، مطمئنين إلى عدم وجود غالب حقيقي أو مغلوب في نهاية المطاف.
الوحيد الذي يعاني أزمة مع حتمية التعادل، ويسعى إلى تسجيل هدف في هذا الوقت الضائع الطويل، قبل إعلان نهاية المباراة وتهافت اللاعبين مجدداً لتقبيل بعضهم بعضاً، هو رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون.
ضمن فريقه، يتنقل عون بين الهجوم والوسط والدفاع، من دون أن يتردد بتولي حراسة المرمى حين يلزم الأمر. لكنه يعجز، رغم كل اجتهاده، عن تسجيل هدف. تارة يعده الوزير جبران باسيل بمبادرة خصومه إلى تسجيل هدف في مرماهم في حال تراجعه إلى الوسط، وطوراً يسبقه باسيل في الهجوم ليضمن تناسي الجمهور خطته السابقة بعدما ثبت فشلها. النائب إبراهيم كنعان يخبره عن إمكان إضعاف دفاعات الفريق الآخر في حال انفتاحه على معراب، وآخرون يأخذون باسيل إلى بكفيا للهدف نفسه. أما الوزير السابق سليم جريصاتي، ونائب رئيس المجلس النيابي السابق إيلي الفرزلي، وغيرهما في «رابطة المشجعين»، فيواصلون رفع معنوياته، مبتكرين يومياً هتافات جديدة. إلا أن الطابة المنحوسة لا تدخل مرمى الخصم.

يعجز جنرال الرابية، رغم كل اجتهاده، عن تسجيل هدف

إثارة الجمهور وإبهاره أمر مهم. لكن الأهم، بالنسبة إلى عون، كان زيادة أوراق قوته. لديه اليوم ورقتان أساسيتان: الأولى، تمثيله المسيحيّ الوازن. وهو سعى ــــ عبثاً ــــ إلى تعزيز هذه الورقة سواء عبر الإصرار على إجراء الانتخابات النيابية في موعدها لتكريس زعامته، أو عبر الانفتاح على بكفيا بداية، ثم معراب، للحصول على الإجماع المسيحي المطلوب من قبل تيار المستقبل للموافقة على انتخابه رئيساً. والثانية، تمسك حلفائه بترشيحه. وهو سعى ــــ عبثاً أيضاً ــــ للانفتاح على تيار المستقبل وتقديم الضمانات اللازمة لعدم اعتبار وجوده في بعبدا تحدياً بالنسبة إليهم. أما مساعيه لإجراء التعيينات الأمنية في موعدها فتمثل، بالنسبة إلى تيار المستقبل جهداً إضافياً لتعزيز أوراق قوته في الاستحقاق الرئاسي. ويشير أحد أبرز المسؤولين في تيار المستقبل إلى اكتشاف عون، متأخراً، أن الأمن يتقدم النفط ورئاسة الحكومة والموازنات بالنسبة إلى تيار المستقبل وحزب الله، اللذين يشتريان المكاسب والتنازلات بالعملة الأمنية، فقرر ولوج هذا المزاد من طريق قيادة الجيش. خلاصة القراءة المستقبلية تؤكد أن فوز أحد الضباط المقربين من عون بقيادة الجيش ستوفر له نفوذاً أمنياً وأوراق ضغط متعددة في مختلف الساحات اللبنانية الملتهبة. «يمكن تحويل القضية المطروحة إلى أزمة مذهبية، لكن في واقع الأمر قائد قوى الأمن الداخلي أو حتى وزير الداخلية لا يمكن أن يستخدما في معركة تعيين رئيس جديد للحكومة. أما قيادة الجيش، فيمكن أن تستخدم في معركة رئاسة الجمهورية». ورغم كل ما يروى عن مناقبية قائد فوج المغاوير العميد شامل روكز وإثباته في عدة استحقاقات سابقة عدم تأثره بالضغوط السياسية والحسابات الرئاسية، يرى أحد أبرز المسؤولين في تيار المستقبل أن عون سيستخدم قيادة الجيش مجدداً للوصول إلى بعبدا.
مقابل هذه الخشية الحريرية، يلاحظ عدم سعي العونيين إلى تقديم التطمينات اللازمة لتعيين روكز قائداً للجيش، أسوة بالتطمينات التي قدّموها قبيل حصولهم على وزارات الطاقة والاتصالات والخارجية وغيرها. فانفتاح روكز على حزب الله، مثلاً، أتى بمبادرة شخصية منه وبتشجيع بعض الأصدقاء المشتركين، وكذلك توطيده لعلاقته برئيس تيار المردة النائب سليمان فرنجية وزيارته للرئيس نبيه بري. لم يضع أحد خطة جدية لمواكبة سعي الجنرال للفصل بين موقفه المبدئي لناحية إجراء التعيينات الأمنية في موعدها ورغبته في تعيين روكز قائداً للجيش قبل بلوغه سن التقاعد. وبدل تنظيم حملة جدية لضمان الاعتراف بحق الضباط الأقوياء في الوصول إلى قيادة الجيش لا الضباط التسوويين حصراً، شغل الجمهور العوني بأخبار مفبركة عن إطفاء روكز أجهزته لاقتحام عبرا ثم عرسال فطرابلس، من دون تنسيق مع قيادته، وكأن هناك من يسعى إلى إظهاره بمظهر الضابط غير المنضبط. قبل أن يذهب الوزير باسيل أبعد في إحراق حظوظ روكز عبر قوله إن «اختيار قائد الجيش الماروني هو قرار ماروني»، رغم معرفته أن توفير إجماع ماروني على تعيين روكز قائداً للجيش أصعب من توفير إجماع مماثل على انتخاب عون رئيساً، وقبل أن يوزع أحد المقربين من باسيل على سيارات الطلاب الوافدين إلى الرابية، نهاية الأسبوع الماضي، صورة للجنرال وصهريه، باسيل وروكز. في النتيجة، تحول الأخير من ضابط يستحق أن يعين قائداً للجيش إلى مجرد صهر يستخدم لإخضاع عمه بتسوية تقضي بتعيينه قائداً للجيش.
عملياً، يبدو واضحاً أن ثمة خللاً إدارياً كبيراً في ماكينة الرابية منذ بضعة أشهر. إذ يصعب فهم المغزى من إيحاء بعض الزوار الدائمين الجدد بنية الجنرال التصعيد وقلب الطاولة قبيل كل إطلالة له، ليفاجأ الجمهور بخطاب أقل تصعيداً بكثير مما كانوا ينتظرونه. ويصعب أيضاً فهم المغزى من تحميل بعض النواب العونيين ورقة الطروحات العونية وإرسالهم إلى منازل السياسيين، كأن هؤلاء لا يملكون إنترنت أو تلفزيونات ليتابعوا مؤتمرات الجنرال الصحافية ويطلعوا على طروحاته. أما الأصعب، فهو فهم المغزى من إظهار عون بمظهر المتسامح جداً مع تيار المستقبل مرة والهاجم عليه مرات، ولا سيما أن آفاق الهجوم والانفتاح يجب أن تكون جلية في رأس الزعيم قبل ذهابه في أيٍّ من الاتجاهين، خصوصاً أن «الحسابات المالية واحترام الدستور والمناصفة والشراكة» ليست كماليات يفترض تذكير المواطنين بها تارة وإلزامهم بنسيانها طوراً. وفي السياق التنظيمي نفسه، كان يفترض بالوفود الشعبية التي استدعيت إلى الرابية، لأول مرة منذ سنوات، أن تكون أكبر بكثير من الأعداد المخزية التي تقاطرت لدعم الجنرال. أما التسريبات التي تداولها بعض الناشطين العونيين، بفرح، على مواقع التواصل الاجتماعي لهتافات من «الزنار ونازل»، فلا يمكن التصديق أبداً أنها قيلت في الرابية وسمح للناشطين بالاحتفاظ بها، بل ونشرها.