1. العالم العربي: ثلاثة «عوالم» أو أكثر ـ اقتصادياً واجتماعياً ـ بحسب الأدبيات الحديثة الصادرة عن المنظمات الدولية. لكن الأحداث السياسية (الاضطرابات الأخيرة) أثبتت من الوجهة الاستراتيجية وجود درجة عالية من الترابط السياسي الوجودي بين مكوّنات هذا العالم، الذي يكاد ينطبق عليه وصف «الأوعية المتّصلة». والاستنتاج الأساسي بالتالي هو أولوية البحث في «الكل» وليس في «الجزء».
2. أهم الخصائص والمعوقات التي تنطبق على العالم العربي (مع تفاوتها من بلد إلى آخر ومن مجموعة بلدان إلى أخرى) تتلخّص في الآتي:
ــ غلبة اقتصاد النفط وتفاعلاته المتنوعة، كقاطرة أساسية للنمو الاقتصادي، والتأثير الحاسم للنفط وأسعاره على تقلبات معدلات النمو عموماً في المنطقة.
ــ الافتقاد إلى الرافعة الصناعية كمحرّك أساسي (بين محركات أساسية عدّة) للتنمية، وذلك بخلاف ما تحقق في البلدان المتقدمة التي سبق أن حققت ثورتها الصناعية.
ــ الدور الكبير للاستهلاك ـ وبخاصة الاستيراد الاستهلاكي ـ كمحدّد للنمو الاقتصادي، على حساب محدّدات النموّ الاخرى، كالاستثمار والتصدير المتَّسمَين بمحتوى تكنولوجي وقيمة مضافة مرتفعين.
ــ تميّز البنية العامة لمؤسسات القطاع الخاص بطغيان المؤسسات المتناهية الصغر التي قلّ عدد العاملين في أكثريتها الساحقة عن 5 أو 10 عمال وتتّسم بإنتاجية عمل متدنية.
ــ انعكاس معدلات الخصوبة المرتفعة والبنية العمرية الفتية، زيادة مطّردة في مستوى عرض العمل، مقابل محدودية نسبية في طلب المؤسسات الخاصة على العمل (ما ترجم في معدلات بطالة قياسية، وبخاصة في صفوف الشباب)، وسط تراجع القطاع الحكومي كحاضن للعمل.
ــ المستوى الشديد الانخفاض في المقارنات الدولية لحجم (ونوع) المبادلات البينيّة السلعية والخدميّة والاستثمارية بين البلدان العربية، كنسبة من إجمالي مبادلاتها (دون 10% عربياً مقابل 50% بل 60% من المجموعات المتقدمة والناشئة).
ــ انعكاس هذا كله في بنية للمبادلات الخارجية يستوطن فيها الكثير من نقاط الضعف، سواء لجهة تركيب الصادرات أو لجهة تركيب المستوردات، وذلك بالمقارنة مع ما هو قائم على هذا الصعيد في مجموعات البلدان المتقدمة والناشئة.
ــ انعكاس ذلك أيضاً في اختلالات اجتماعية فاقعة (وإن متفاوتة من بلد إلى آخر) تعبّر عنها بوضوح مؤشرات عدّة أهمها: مدى التجسيد الفعلي للحقّ في الصحة والتعليم والعمل والتقاعد والسكن والرعاية الاجتماعية، ومدى استفادة المجموعات الاجتماعية الهشّة، (بمن فيها الفقراء والمتعطّلون من العمل والمعوقون والمسنون وغيرهم)، من شبكات الأمان الاجتماعي.
3. إن معدلات النمو السنوية للناتج المحلي للفرد في العالم العربي ككل على مدى العقود الستة الماضية قد حلّت فعلياً، رغم الثروات النفطية وغيرها من المواد الاولية، في المرتبة ما قبل الأخيرة، مقارنة بما تحقق عالمياً في المجموعات الأخرى من بلدان العالم. وينطوي هذا الواقع، إذا ما نظر إليه من زاوية البلدان العربية كمجموعة وليس كدول، على استنتاج أساسي مفاده: فشل النمط الاقتصادي الذي ساد في منطقتنا عموماً في تلبية الشروط والمتطلبات الأساسية للتنمية الاقتصادية المستدامة والتقدم الاجتماعي في هذا الجزء من العالم. ولا بأس في هذا الزمن الصعب التي تحيط به الاضطرابات السياسية من كل حدب وصوب، أن يتصارح العرب بشفافية ويتبصّروا في كل ما له علاقة بمتانة وصوابية المرتكزات التي قام عليها ـ تاريخياً ـ هذا النمط من النموّ الاقتصادي، وذلك بهدف الإحاطة بالأسباب الفعلية والعميقة لتلك الاضطرابات والعمل على معالجتها، والانتقال إلى قدر أكبر من الأمان الاقتصادي والاجتماعي ـ وبالتالي السياسي ـ لبلداننا وشعوبنا، وخصوصاً للشرائح الواسعة من الشباب العربي الذي تخامره راهناً مشاعر الإحباط واليأس.
وفي إطار هذا التصارح المطلوب، نكتفي بتسجيل جملة من التساؤلات عن عدد من القضايا المحورية ذات الصلة، أهمها:
ــ ما هي المحددات الفعلية التي أملت علينا اعتماد سقوف عالية لإنتاج النفط؟ وما هو تقويمنا لحيثيات التزام هذه السقوف؟
ــ ما هي الفرص الملمومسة التي أُتيحت لنا للتأثير ـ حتى لا نقول التحكّم ـ في تقرير مستويات أسعار هذه المادة الاستراتيجية التي التزمنا سقوف إنتاجها العالية؟
ــ ما هو تقويمنا لمصلحة نقاط القوة والضعف التي نجمت عن تكديس الفوائض النفطية وعن الطرق التي اعتمدت في استثمارها، خصوصاً ما يتعلق منها بذلك الجزء المهم الذي وظّف خارج العالم العربي، سواء مباشرة عبر أسواق المال والعقار والبورصات والشركات العالمية، أو غير مباشرة عبر الإفراط في الإنفاق على استيراد السلاح واستهلاك الكماليات؟
ــ إلى أي حد نجح هذا النسق في الاستثمار في حفظ القوة الشرائية لمدخراتنا وتأمين انتقال التكنولوجيا (الإنتاجية وليس الاستهلاكية) إلى بلداننا، وتعزيز البنى الإنتاجية ذات القيمة المضافة المرتفعة فيها، وبالتالي تطوير تركيبة مبادلاتنا الخارجية، بما فيها المبادلات البينية العربية؟
ــ ما هو التقدّم الفعلي الذي تحقق في عملية تنويع البنية الداخلية للاقتصادات العربية، علماً بأن هذا التنوع لا يقاس فقط بمدى تصنيعنا للمشتقات النفطية محلياً (صناعة البتروكمياويات)، بل بمدى استخدامنا ـ محلياً لنسب متزايدة من هذه المشتقات كمدخلات في قطاعات النشاط الاقتصادي الأخرى المختلفة، أي داخل الدورة الاقتصادية المحلية بالذات؟
ــ ماذا أنجزنا فعلياً (وليس نظرياً فقط) على صعيد تحفيز انسياب الاستثمارات العربية البينية والتزام مبادلاتنا التجارية بتطبيق نظم المواصفات وشهادات المنشأ وإزالة الحواجز النوعية والكمية أمام هذه المبادلات؟
4. لا يتسع المجال للخوض في إجابات مفصلة عن هذه التساؤلات المشروعة. نكتفي بالقول إن المنطقة باتت تحتاج ـ في ذروة الاضطرابات السياسية الراهنة واحتمالاتها غير المكتملة الفصول ـ إلى تغييرات جوهرية في النمط الاقتصادي السائد، واجتراح رؤية إنمائية طويلة المدى وذات طابع كلّي للمنطقة قوامها: تفعيل وتطوير الاستخدام الأمثل للكوادر والقدرات، بالاستفادة من الموقع الجغرافي (تنوع طرق الوصل بين الشرق والغرب برّاً وعبر الممرات البحرية)، والبنية العمرية الفتية، وطفرة متخرجي الجامعات والمعاهد الفنية، ووفرة الموارد الأولية، وخصوصاً النفط، واتساع السوق الاستهلاكية، وأهمية الإرث الثقافي، والانتشار العربي الواسع في بلدان الاغتراب وغيرها من عوامل.
وفي إطار إنجاز هذه التغييرات المطلوبة، تبرز في المقام الأول أولوية إحداث انعطاف في الواجهة الراهنة لتدفق الفوائض المالية العربية، بحيث يصار بشكل حثيث إلى إعادة الجزء الأكبر من هذه الفوضى كي يجري توظيفها في إنجاز أو استكمال إنجاز الكمّ الهائل من مشاريع البنية التحتية العربية التي تفتقر إلى التمويل، وذلك في مقابل ضمانات نظامية (مالية وعينية ومصرفية ومستندية) تقدمها الحكومات والآليات الناظمة للأسواق الخاصة ومختلف أنواع الشركات بين القطاع العام والقطاع الخاص.
من دون مثل هذا الانعطاف، سيكون صعباً، إن لم يكن مستحيلاً، تطوير شبكات البنى التحتية، التي تعدّ شرطاً أساسياً للاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ولخلق فرص العمل للملايين من الشباب العربي الذين يتدفقون سنوياً إلى سوق العمل.