منذ بداية طرح ملف التمديد للقادة الأمنيين، توجهت الأنظار تلقائياً الى الرابية ترقباً لموعد فتح معركة قائد فوج المغاوير العميد شامل روكز على غرار المعركة التي أوقفت تشكيل الحكومة الى حين الموافقة على تعيين جبران باسيل في وزارة الخارجية. ولكن، خلافاً لكل التوقعات، فاجأ رئيس تكتل التغيير والاصلاح النائب ميشال عون تكتله والأحزاب السياسية، أول من أمس، بطيّ صفحة روكز والتركيز عوضاً عن ذلك على عنوان واحد تتفرع منه كل العناوين الأخرى، وهو رئاسة الجمهورية. وينطلق عنوان هذه المعركة من فكرة رئيسية قوامها تمسك غالبية الأفرقاء السياسيين ببقاء قائد الجيش جان قهوجي في موقعه، ما يعني بالنسبة إلى عون تمسّكاً غير معلن بترشيح قهوجي غير المعلن الى الرئاسة، فضلاً عن أن التذرع بالملف الأمني من أجل التمديد للقادة الأمنيين يهدف، بحسب العونيين، الى إرساء معادلة أساسية تتلخص بعدم إخراج قائد الجيش من السباق الرئاسي.
لذلك حرص عون، وفقاً لأحد نوابه، على المطالبة بوضوح شديد بعدم التمديد لقهوجي، خلافاً للقانون، بمعزل عمن سيخلفه أو أي أمر آخر. فالمطلوب اليوم دفن حظوظ قهوجي الرئاسية نهائياً، الأمر الذي يخلي موقع قيادة الجيش تلقائياً.
ما سبق يشكل العنوان الأول والأوحد للهجوم العوني الذي سيتصاعد أكثر في الأيام المقبلة، في ظل حرص عون على تحكّمه هو في جميع الأوراق ومواقفه، بدل تشتيت الموقف بتسريبات جانبية. ويروي أحد المطلعين أن عون كان مرتاحاً لناحية انفتاحه على جميع الأفرقاء وعدم تحدي أحد أو استفزازه في ما يخص قيادة الجيش، وكان مطمئناً الى خواتيم حواراته مع الأحزاب السياسية. فما الذي حصل حتى بادرت الرابية إلى تعبيد طريق التصعيد؟ استفاق عون أولاً على مشهد سياسي صحافي يرى في قهوجي ثابتة من الضروري الحفاظ عليها لضمان استقرار المؤسسة العسكرية في هذه الفترة الأمنية الصعبة، الأمر الذي فهمه بأنه رسالة مبطنة من جهة سياسية حليفة. ثانياً، عدم استيعاب العونيين سبب الحرد المفاجئ لرئيس مجلس النواب نبيه بري من التيار الوطني الحر، واعتبار مسألة التحجج بالجلسة التشريعية لإطلاق السهام عليهم رغم اقتصار اعتراضهم على جدول أعمال الجلسة لا الجلسة نفسها، مسعى لمخاصمتهم عمداً من أجل غاية ما توضحت في اليوم نفسه عبر وصول قهوجي الى عين التينة. ثالثاً، وحدة المواقف في قوى 8 آذار من رئيس الحزب الديمقراطي اللبناني النائب طلال أرسلان عقب زيارته عين التينة الى رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، التي أوضحت استراتيجية الحلفاء الهادفة الى دعم التمديد لقهوجي «ولو بالإكراه» من منطلق: بين التمديد والفراغ نختار التمديد.

المطلوب دفن حظوظ قهوجي الرئاسية الأمر الذي يخلي موقع قيادة الجيش تلقائياً


رابعاً، صمت حزب الله الايجابي تجاه كل ما يحصل والمواقف التي تصدر عن المقربين منه، والذي يوحي وكأنه موافقة ضمنية على كل ما يقال. خامساً، وهو ما أدى فعلياً الى طفح كيل الرابية، تصريح رئيس كتلة تيار المستقبل فؤاد السنيورة بأن لا نصيب لعون في الرئاسة، سبقه تردد سعد الحريري في إعطاء جواب قاطع للجنرال رغم التطمينات الايجابية، اضافة الى غياب التعليق على كلام السنيورة والاكتفاء فقط بمحاولة الايحاء بأن هذا الكلام لا يمثل موقف الحريري الرسمي. وهو ما دفع عون الى رفع الصوت عالياً في وجه المستقبل والتلويح بفساد السنيورة عبر نفض الغبار عن «الإبراء المستحيل».
أفاضت هذه الأحداث كأس عون في وجه حلفائه قبل الخصوم، فحرص على إفهام من يعنيه الأمر أنه سيقاتل باللحم الحيّ للفوز بآخر معاركه التي تشكلّ فعلياً صلب القضية التي قاتل من أجلها منذ عودته الى لبنان، فيما الرسالة الثانية كانت واضحة بقطع الطريق على التمديد وإفهام الحلفاء استعداده التخلي عنهم إذا ما تخلوا عنه، مؤكداً عدم مشاورته أحداً. وحتى لا يضع الآخرون مطلب عون المبدئي في خانة مطالبته بتسليم صهره قيادة الجيش، كان واضحاً في مطالبته بعدم التمديد لقهوجي بمعزل عمن سيكون قائد الجيش. وهو، برفضه شخصنة القضية، يقطع الطريق على أي تسوية تقضي بالتمديد لروكز وبضعة ضباط آخرين. يقول عون اليوم إن التمديد ممنوع على الجميع، ولا يمكنه التراجع عن هذا الموقف أو تعديله بعد بضعة أيام. ويردد زوار الرابية السؤال نفسه تقريباً عمّا يمنع تعيين روكز قائداً للجيش في أيلول قبيل شهر من تقاعده، بدل تعيينه بعد عامين، ما دام الأمر وارداً.
في حسابات العونيين لم يكن التمديد لمجلس النواب عبثياً، بل مهّد الطريق للإتيان برئيس جمهورية يراعي التوازنات القائمة وعقلية اتفاق الطائف. وهو ما ينطبق فعلياً على قيادة الجيش، حيث يرى هؤلاء أن التمديد يأتي في الاطار نفسه. إزاء ذلك، كان لا بدّ لعون أن ينتفض على الجميع فاتحاً الآفاق أمام احتمالات كثيرة، الاعتكاف الحكومي أحدها. وبرأيهم، أن يقول عون ما قاله عن قدرته على ترك حلفائه والسير وحده بعدما طفح الكيل، لا يمكن أن يمرّ مرور الكرام لسببين: أوّلهما أن عون ليس جعجع، وبالتالي يصعب تجاهله، فلا كتلته تضم 6 نواب فقط ولا اعتكافه الحكومي والتزامه منزله سيمرّان على خير من دون تداعيات جدّية. ثانيهما لا يمكن لحزب الله وحركة أمل التصرف اليوم وكأن شيئا لم يكن متجاهلين رسائل عون التحذيرية، فالواضح أن الأخير أرسى معادلة جديدة غيّرت ملامح التسوية الداخلية وألزمت قوى 8 آذار بالانشغال مجدداً بإعادة لملمة بيتها الداخلي، وربما إعطاء هذه المعركة أولوية إلى جانب معركة القلمون.