تتطابق أشكال الأحياء والبنايات بباطونها المشظّى من الخارج وأثاثها المهترئ من الداخل وتعب القاطنين وأشكالهم. يوماً تبدو المدينة بكل فقرها غاية في الجمال، ويوماً آخر تبدو الصورة نفسها شديدة البشاعة. تماماً كما تبدو الأدراج والأزقة الجانبية التي تربط المدينة بعضها ببعض رائعة يوماً ومخيفة في اليوم التالي. لا تكاد المدينة تعتقد أنها بلغت أسفل الدرك، حتى تفاجئها التطورات بما هو أسوأ.هكذا تجد نفسك قبالة صبية عشرينية تحيط نفسها بسبعة أولاد تسأل عما يجب عليها فعله لتربية هؤلاء. لعل زوجها واحد ممن كانوا يحلمون بتفجير أنفسهم في أحد الأحياء السكنية المكتظة. لكنها الآن تسعى إلى الفوز بتضامن الرأي العام معها.

تشرح بإسهاب عن تفتح وعي زوجها السياسي غداة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ودأبه على قراءة صحيفة المستقبل عشر سنوات، وعدم سماعه يوماً من خطابات السيد حسن نصرالله غير المقتطفات التي يعرضها نديم قطيش في برنامجه على شاشة المستقبل. لم يعد يوماً من اعتصام في مدينته إلا وفي هاتفه الخلوي صورة جديدة له مع نواب المستقبل ومسؤوليه. تفتح صحيفة مرمية قربها، سائلة من «يقول لنا إن حزب الله ينشئ مطارات عسكرية خاصة فيما أنتم ممنوعون من تشغيل مطار مدنيّ في منطقتكم؟». تقاطعها إحدى جاراتها لتسأل، بالحرقة نفسها، عمن استنجد بهم لنجدة السرايا المحاصرة مرة وضد «اجتياح حزب الله لبيروت» مرة ولحماية مدينتهم مرات؟
الخطاب نفسه كان يسمعه شبان طرابلس في الساحات وداخل المساجد وفي البرامج التلفزيونية. ظنوا بحملهم السلاح أنهم يؤدون دورهم فيما غيرهم – السياسيون – يؤدون دورهم أيضاً في سياق تكاملي. لم يعتقدوا، ولم يقل لهم أحد، إنهم يفعلون أمراً خاطئاً أو يحرجون مرجعياتهم. وفي النتيجة، زُجوا في السجن فيما الرئيس سعد الحريري يتنقل بين الولايات الأميركية والرئيس فؤاد السنيورة يوسع استثماراته وأشرف ريفي وزير عدل. ها هي المدينة نفسها التي تمرجلت على أحد أحيائها أربع سنوات وسحلت أحد العمال السوريين في شوارعها وأطلقت الرصاص على المئات من أبنائها لمجرد أنهم علويون بعدما هجرتهم وأحرقت متاجرهم، تقول الآن إنها مظلومة وتسأل عن حقوق أبنائها داخل السجون وخارجها. تتجاهلها الآن أم تتعاطف معها؟ المشكلة أساساً كانت مع من بالغوا في ردّ فعلهم، أم مع من حثهم وشجعهم؟
تقرّ إحدى السيدات، عند باب النائب محمد كبارة في التل، بأن زوجها أخطأ، وتذهب بعيداً في الموافقة على سجنه. لكنها لا تعرف كيف تتدبر ثلاثين ألف ليرة أسبوعياً لزيارته، ولا تفهم لماذا تنتظر ساعتين أو أكثر لتقابله، ولماذا يتضاعف سعر المواد الغذائية في كافيتيريا السجن في حال اضطراره إلى شراء غرض ما عشرة أضعاف. تكاد تفقد عقلها مما تسمعه منذ شهرين عن تعرية السجناء وإبقائهم من دون مياه واستخدامهم في اختراع أساليب تعذيب جديدة. يتجاوز عدد الأسر المعنية بالإسلاميين الموقوفين الألف؛ وهناك نحو ألف آخرون يتوارون عن أنظار القوى الأمنية، بقي الأساسيون منهم في منزل الشيخ سالم الرافعي أكثر من أربعة أسابيع. تقطن أسر هؤلاء في المدينة. يمكن الحريري وسواه من زعماء ربطة العنق تجاهلهم بالكامل والاستهتار بمن يحسبون لهم حساباً، لكن لا يمكن من يمر بهم ليدخل إلى مكتبه أن يواصل إدارة ظهره لهم. غداة أحداث رومية الأخيرة، يقول المقربون من النائب محمد كبارة إن وزير الداخلية نهاد المشنوق استنجد بـ «أبو العبد» للتوسط لدى الإسلاميين لإطلاق سراح سجانيهم، وهكذا كان. اعتقد كبارة أن وساطته ستتيح له القول لأبناء منطقته إنه حقق لهم مجموعة مكاسب، إلا أن وزارة الداخلية «نكثت بوعودها» بحسب مصادر كبارة، فما كان منه إلا أن رفع صوته معترضاً. المقربون منه يتحدثون صراحة عن قدرة الرئيس الحريري وربما الوزير نهاد المشنوق على الفوز بنيابتهم بمعزل عن الخدمات الفردية وملاحقة أهواء ناخبيهم لإثبات استحقاقهم ثقتهم، أما النائب الطرابلسي فلا يمكنه تجاهل ألفي أسرة كانت معركتها قبل شهرين مع حزب الله، فيما معركتها اليوم مع وزراء تيار المستقبل ونوابه ومسؤوليه. ويبدو لافتاً وغريباً في هذا السياق عدم سعي المستقبل إلى مواكبة انعطافته السياسية بمجموعة تسهيلات إدارية لأسر المسجونين وخدمات وتقديمات اجتماعية.
إذاً، هناك أولاً ضغط شعبي ضد «التسوية الانهزامية» يشعر به النواب الخدماتيون القريبون من ناخبيهم أكثر من غيرهم. وهناك، ثانياً، مجموعة نواب شماليين يخشون من تهميشهم سياسياً مستقبلاً بحكم مبالغتهم في التصعيد.

ضاهر عن حبيش: انتهازي وبدي مسح الأرض فيه!
وهناك، ثالثاً، من يخشى من أن تطاوله الملاحقة الأمنية بعدما فوجئوا بعدم قيام المستقبل بأي جهد جدي لحماية ممثله العسكري الأول في المدينة عميد حمود، ما اضطره إلى الفرار. وبموازاة هذا كله، هناك تقصير مستقبلي كبير في استيعاب مخاوف هؤلاء، في وقت يسمح فيه تنظيم تيار المستقبل الهش في المدينة لفريق عمل الرئيس نجيب ميقاتي بتحقيق اختراقات هنا وهناك. في ظل قرار ميقاتي مواصلة العمل السياسي ومواجهة المستقبل، وتعويله على استقطاب عدة نواب مستقبليين بوسائله المختلفة لتشكيل لائحة قوية معهم. فبموازاة قول النائب خالد ضاهر لـ»الأخبار»، مثلاً، إن «الحكومة خادمة عند حزب الله وهي لا تكتفي بتغطية مشاركته في الحرب السورية إنما تلاحق خصومه وتسجنهم»، ينشط المشايخ المقربون من ميقاتي في الحركات الاحتجاجية وتأجيج غضب الشارع. مع العلم أن رئيس كتلة المستقبل فؤاد السنيورة سارع إلى الاجتماع بكبارة السبت الماضي ليطلب منه التهدئة وعدم التصعيد أكثر. فيما يؤكد المطلعون أن نوعية التصعيد وسهامه ستتسع أكثر فأكثر رغم جهود السنيورة لاحتواء أعضاء كتلته. ويبدو واضحاً أن هجوم بعض هؤلاء على بعضهم الآخر سيتواصل ويشتد، فالنائب ضاهر يذهب بعيداً في تأكيده وجوب تنبيه الناخبين إلى خطورة ما يقوم به نوابهم. ورداً على دفاع النائب هادي حبيش عن أداء الوزير المشنوق في وجه هجوم كبارة، يؤكد ضاهر سأمه من سعي حبيش إلى تبييض وجهه هنا وهناك، مؤكداً نيته «تمسيح الأرض في حبيش» في حال مواصلته عروضه الانتهازية. ولا بدّ من الأخذ في الاعتبار أن هجوم كبارة على المشنوق لا يأتي في سياق هجوم الوزير أشرف ريفي على الأخير؛ فريفي وكبارة يتصرفان كخصمين، وما مبالغة كبارة الدائمة إلا مزايدة على ريفي للقول للناخبين إنه أحرص من وزير العدل الذي ينافسه على مقعده النيابي على كرامتهم.
في النتيجة، يمكن تيار المستقبل الاستمرار بالقول إنه ليس إذاعة فنية تعرض ما يطلبه المستمعون. لكن هذا لن يساعده على ترسيخ التسوية السياسية شعبياً وتحقيق الاستقرار، خصوصاً أن هناك خصماً قوياً يتمتع بالمقدرات المالية يقاتل المستقبل بسلاحه. لا توحي طرابلس إلا بوجوب مصارحة المستقبل أكثر لجمهوره، وإقناعهم بأنه يتنازل في مكان ليربح في مكان آخر لاستعادة ثقتهم به. فعملياً لا أحد يحتاج قيادة المستقبل من دون جمهورها؛ المستقبل لم ينزل الجمهور معه، فيما يجتهد ميقاتي وعدة نواب مستقبليين لإبقائه حيث هو: على قمة التعبئة المذهبية يكاد ينفجر من شدة التحريض.