عندما يبحث قضاة ومحامون في سبل تعزيز استقلالية القضاء، هذا يعني أن حجم التدخل في العمل القضائي بلغ مستوى عالياً يتطلب وضع حد له. كلّ ما أثير سابقاً في وسائل الإعلام عن تدخلات سياسية ومالية في عدد كبير من الأحكام التي صدرت، وكل ما هو متداول بين الناس عن حجم الواسطة والفساد المستشري في القضاء، كان يجابه بأنه «افتراء» و»هجوم غير مبرر على السلك القضائي في لبنان» تسارع التركيبة القضائية الى وضع حد له.
تعود إلى الضوء هنا قضية الزميل محمد نزال بوجه القاضية رندا يقظان التي خُفضت رتبتها بعدما كشف نزال «خضوعها» لضغوط من أجل تبرئة أحد المتهمين في قضية بيع مخدرات داخل الجامعات. بعد ذلك، عوقب الصحافي بتهمة «التشهير»، إلا أن الهدف الأساسي أعلنه محامي يقظان في إحدى الجلسات وهو «ضبط الصحافة الفلتانة التي تهين القضاة».
أمس، خرج أحد أركان السلطة القضائية، رئيس مجلس شورى الدولة القاضي شكري صادر، ليرفع الصوت من قلب بيت المحامي أنّ مشكلتنا «في كل مشروع إصلاحي هي تدخل السياسيين بشكل وحشي بحق القضاء، إضافة الى تدخل الطوائف»، معترفاً بأنّ «الشعب اليوم ليس متصالحاً مع قضاته، وهذه المصالحة لا تحصل إلا عبر إعادة بناء الثقة بين القضاء والناس». أمّا رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي جان فهد فأكّد أن «ثمة ورشةً قائمة لرصد العمل القضائي من أجل معالجة مواطن الخلل والانتقال بالقضاء اللبناني الى مصاف يضحي فيها فاعلاً طليق اليدين». هكذا إذاً يعترف القاضيان بأنّ القضاء اللبناني يواجه مشكلة كبيرة في سير العدالة نتيجة التدخّل السياسي والطائفي الحاصل.

صادر: تدخل
وحشي من السياسيين
في كل مشروع إصلاحي
أما نقيب المحامين جورج جريج فيلفت إلى مسألة أخرى تهدد هذه الاستقلالية وهي «عمل المحاكم الاستثنائية التي تبقى علامة غير مقبولة».
مشروع «دعم وتعزيز استقلالية القضاء» الذي أطلقته المفكرة القانونية بالشراكة مع الهيئة الدولية للحقوقيين والمعهد العالي الدولي للعلوم الجنائي، أمس، يشكل «الخطوة الأولى باتجاه ضمان استقلالية القضاء في لبنان وتعزيز مكانة هذه الاستقلالية كأولوية اجتماعية أساسية فيه».
يشرح المدير التنفيذي لـ«المفكرة القانونية» المحامي نزار صاغية أن العمل على تعزيز استقلالية القضاء ينطلق من أمرين، «أولاً أهمية استقلال القضاء في مجتمع منقسم. وثانياً تطور ثقافة التدخل في القضاء واستباحته واستتباعه على نحو يحجب الى حد كبير ثقافة استقلال القضاء وذلك منذ انتهاء الحرب الأهلية». ويضيف إن أبرز مقومات إعادة بناء الدولة هو فك الارتباط بين القضاء وسلطات الاستقطاب الحاكمة، حيث إن حماية حقوق المواطن وحرياته تشترط بالضرورة أن يبقى القضاء خارج إطار هذا التقاسم.
يسعى المشروع الى تطوير 3 مسارات: الأول إعلامي وبحثي عبر صياغة تقرير شامل عن أوضاع القضاء وتأسيس مركز «إقليمي للدراسات والسياسات القضائية». والثاني اجتماعي عبر التوجه نحو إنشاء تجمعات قضائية مهنية، إضافة الى إبراز أهمية اللجوء الى القضاء في القضايا الاجتماعية الهامة التي تصطدم بموانع المصالح التوافقية السياسية، أي التقاضي الاستراتيجي الهادف الى تغيير ممارسة مخالفة للقانون. فيرى القاضي فهد في هذا الإطار أن «استقلالية القضاء هي أولوية اجتماعية لأن القانون ليس حكراً على المحامين والسياسيين والقضاة، بل هو مسألة تهمّ المجتمع بأكمله». أما المسار الأخير فهو المسار التشريعي المتمثل بالعمل على صياغة عناوين واضحة للإصلاح ومشاريع قوانين؛ أهمها قانون تنظيم القضاء العدلي وتنظيمات في مجالات عدة كالمعايير المعتمدة لتعيين القضاة أو نقلهم.