حراك سياسي قائم بشأن اليمن. لكنه ليس من النوع الذي ينتج حلاً قريباً أو سريعاً. عند انطلاق العمليات الإجرامية، لم يكن أحد قادراً على ممارسة أي نوع من الضغوط المباشرة أو غير المباشرة على طرفي الصراع، وتحديداً آل سعود، الذين أفاقوا على مشهد اعتقدوا، ولا يزالون، أنه سيحملهم إلى عرش الأمة العربية والإسلامية. بينما لم يكن الطرف اليمني في موقع المبتدئ، وشرطه للتسوية كان ولا يزال، عقد حوار سياسي يمني ــ يمني بعيداً عن المعتدين، لإنتاج صيغة تنظم الحياة السياسية في البلاد، بناءً على وقائع جديدة، أساسها أن اليمن خرج، ولمرة نهائية، من ثوب الوصاية والهيمنة السعودية.
بعد أكثر من أسبوعين على الحملة الجوية، يتبين أن بنك الأهداف الرئيسي للأيام الثلاثة الأولى كان مصدره الولايات المتحدة. سفير آل سعود في واشنطن، عادل الجبير، حصل من الاستخبارات الاميركية على جواب حاسم بأن الجيش الأميركي لن يشارك مباشرة في العدوان. وحتى لا يخرج خالي الوفاض، أعطاه رئيس الاستخبارات لائحة بنحو 150 هدفاً عسكرياً وأمنياً، غالبيتها مواقع للجيش اليمني، وبعضها لأنصار الله. لاحقاً، حصل المعتدون على قوائم بأهداف تنحصر في بنى تحتية تخص الدولة والشعب. لكن الصواريخ غير الذكية لم تصب إلا حشود المدنيين فقتلت وجرحت منهم الآلاف.
كان آل سعود واثقين بأن لهم أنصارهم على الأرض، وبأن قبائل ومجموعات مقاتلة، من أهل الجنوب والوسط والشمال، ستنفّذ انتفاضة مسلحة تواكب العدوان. كذلك راهنوا على سيطرة مجموعات «القاعدة» في الجنوب الشرقي على مناطق واسعة، ما يقلّص دائرة نفوذ الجيش وأنصار الله. وراهن المعتدون، أيضاً، على ردود انفعالية من قيادات المقاومة اليمنية، كاللجوء إلى قصف بالصواريخ أو هجمات عبر الحدود، أو بالتحرك عند باب المندب، ما يعني ذريعة للقيام بعمليات برية وبحرية كبيرة بمشاركة قوى عربية وإسلامية.

اكتشف آل سعود زيف أوهامهم بأن العالم
مجنّد لخدمتهم، وها هم يحصدون خيبة تلو أخرى


لكن أياً من كل هذه الرهانات لم يحصل. فقد بات واضحاً أن أي انتفاضة شعبية حقيقية لم تحصل. وأن حزب الإصلاح، الفرع اليمني للإخوان المسلمين، لم يكن مستعداً أو قادراً على القيام بتحرك يتجاوز بضع تظاهرات وبيانات تؤيد العدوان. وأن الرئيس الفار لا يملك من الشعبية ما يجعله قادراً على تثبيت نقطة آمنة له في جنوب اليمن أو وسطه أو حتى شرقه. وأن قيادات الحراك الجنوبي ليست في وضع يؤهلها للقيام بما هو مطلوب. أبرز ما حصده آل سعود، بيانات للرئيس الجنوبي السابق علي سالم البيض، لا تتضمن اعترافاً بوحدة اليمن، وزيارات لوجهاء أو قيادات من الصف الثاني للإمارات العربية المتحدة أو قطر أو السعودية انتهت إلى بيانات خجولة جداً. ليتبين، لاحقاً، أن هذه الوفود صدمت بعدة أمور. فهي تلقّت إغراءات مالية، لكنها من النوع الزهيد جداً القابل للتجاهل والاستغراب. وما هو أهم، أن هؤلاء سمعوا آراء متضاربة. فبينما طالبهم آل سعود برفع السقف، سمعوا في الإمارات وقطر كلاماً معاكساً. كذلك لمس بعضهم التباين الآخذ بالاتساع داخل العائلة الغازية، بين محمد بن نايف الذي يدعو إلى «التصرف بحكمة» وبين متعب بن عبدالله الذي يراد له تنفيذ الأوامر فقط، ومحمد بن سلمان، المراهق الذي يعتقد أنه «ملك الصحراء». والمشكلة مع الأخير مضاعفة، لكونه ابن الملك من جهة، ووزير الدفاع من جهة ثانية، ورئيس الديوان الملكي، أي القابض على ختم العقود من جهة ثالثة.
على الأرض، كانت الضربات الجوية عامل إزعاج قوي، لكنها لم تكن عامل إعاقة لتنفيذ عملية السيطرة الشاملة من قبل الجيش وأنصار الله على كامل الجنوب والشرق. وهو ما ظهر خلال الأيام العشرة الماضية، علماً بأن الخطط الموضوعة للإمساك بمحافظتي مأرب وحضرموت قيد الإعداد والتنفيذ. وما يجري الحديث عنه من مواجهة في مناطق أخرى من بينها عدن، لا يمثل عنصراً رئيسياً في مواجهة التحكم والسيطرة التي باتت بيد الجيش وأنصار الله، وحيث صارت أي قوة في مقابلهم لا تساوي شيئاً.
وكأن مصيبة آل سعود لا تقف عند هذا الحد. فجاءت الأيام لتكشف لهم عن أوهام زرعوها في عقولهم يوم تصوروا أن العالم مجنّد لخدمتهم. وها هم يحصدون الخيبة تلو الأخرى. من موقف باكستان الرافض الانخراط في الحرب، إلى قرار تركيا بالحياد، إلى حذر المغرب، إلى تردد مصر الذي يشي بالمزيد إن بقيت الأمور على حالها. لكن الأهم، أن الأوروبيين لا يبيعون إلا الأسلحة والكلام المعسول، وأما الولايات المتحدة، فلا تبدو في وارد توفير الغطاء الكامل الذي يمكنهم من تحقيق نتائج على الأرض، وحصل كل ذلك، وسط تراجع الحماسة عند أهل الخليج انفسهم، من قطر المشكوك بولائها للخطة، إلى الكويت الساعية إلى أخذ مسافة، إلى الإمارات المنقسمة على نفسها.
لكن الصدمة الأكبر، ليست في عدم خروج مئات الألوف من المتطوعين العرب للانخراط في معركة استعادة الهيبة العربية كما يروج آل سعود، بل في أن حملة الترويج للعدوان وتبنيه، باتت اليوم تقتصر، فعلياً، على الأصوات المدفوعة الأجر مباشرة من قبل آل سعود. وثمة أسئلة عن قدرة هذه الأصوات على الحشد والتعبئة، بينما يتحول كل يوم صمود من قبل الجيش وأنصار الله إلى جدار مانع أمام تحقيق العدوان لأهدافه.
بعدما ترك آل سعود وحدهم، صار بمقدورهم مراجعة الأمر، والتيقن من أنه لا يوجد في العالم من يريدهم منتصرين أصلاً. لا تركيا التي تخشى من نفوذهم على مصير «الإخوان» في اليمن. ولا باكستان التي تريد علاقات متوازنة، وليس البقاء رهن من أنتج طالبان ومشتقاتها، ولا بقية دول مجلس التعاون التي صارت منهكة من الإدارة القسرية لآل سعود لكامل شؤونها، فكيف بالآخرين، من أميركا التي أفصح رئيسها باراك أوباما عن تصوره لأوضاع آل سعود وحلفائهم، إلى المغرب العربي الذي يكتفي، كما مصر، بمن يدفعون بسخاء مقابل حاجتهم للدعم، وصولاً إلى خصوم آل سعود في اليمن نفسه وفي محور بلاد الشام وانتهاءً بإيران.
ترك آل سعود وحدهم، والمقبل من الأيام، سيلزمهم بخيار من اثنين: إما الأخذ برأي مصري قوي، يدعو لانطلاق مبادرة لفرض حل سياسي يحفظ ماء الوجه للعائلة المجنونة، أو السير في حفلة الجنون نحو مستوى من المواجهة المباشرة، يعرف الجميع أنها ستكون الهزيمة التي ينتظرها مئات الملايين من العرب والمسلمين منذ مئة عام على الأقل.
ترى، من قرر ترك الحمار وحيداً؟