"على الإنترنت، لا أحد يعرف أنّك كلب": كان هذا عنوان أحد أشهر رسوم الكاريكاتور في تاريخ مجلة The New Yorker، والمقولة على لسان كلب يقف أمام الحاسوب ويتوجّه بها لكلب آخر على الأرض. كان هذا عام ١٩٩٣، حيث كان الإنترنت في بداياته، والمقولة طبعت مرحلة أساسيّة من عمر الإنترنت حيث لم يكن التعريف بنفسك هو الأساس، وبالتالي كان يمكن أن تدّعي كونك عالماً في الفيزياء النظريّة صباحاً، وممثّلاً مسرحيّاً في المساء، وطالب مدرسة ابتدائية في ما بينهما.
عصر آخر

ولو سرّعنا الزمن إلى عام ٢٠١٥، نجد أنّنا في عصرٍ آخر من الإنترنت، يمكن تلخيصه بمقولة: "لو كنت كلباً، لعرف الجميع بذلك". ببساطة، أصبح من الصعب إخفاء الهويّة، وخصوصاً عندما نريد التواصل مع الآخرين. أصبح كلّ منّا معرّفاً بالتكتّلات الاجتماعيّة التي ينتمي إليها على الإنترنت. فحتّى لو أخفى اسمه، يمكن بسهولة كشف ذلك عبر تحليل إمكانية التقاطع بين هذه التكتّلات. فتكتّل الجامعة الفلانية مع تكتّل الحيّ الفلاني وتكتّل الرأي السياسي وتكتّل النادي الرّياضي لا تتقاطع إلّا عند بضعة أشخاص يُمكن بسهولة تحديد هويّة الشخص المراد من بينهم.
يكفي أن نعرف أنّه بالنسبة إلى الملايين من الأشخاص حول العالم: "الإنترنت هو فايسبوك" كي نستنتج عمق العلاقة بين الهويّة والإنترنت. ففي عيّنة من استطلاع أجرته الباحثة هيلاني غالبايا قال ١١٪ من الإندونيسيّين إنّهم يستخدمون فايسبوك، ولكنّهم قالوا أيضاً إنّهم لا يستخدمون الإنترنت، أي أنّ برنامج التواصل حيث تتشكّل هويّاتهم الافتراضية هو جزيرتهم التي لم يخرجوا منها يوماً على كوكب الإنترنت.

تواصل من دون هويّة

عندما تكون الهويّة جزءاً من عملية التواصل، يزيد الحذر من مشاركة تفاصيل الحياة بدقّتها مع مروحة واسعة من الأشخاص. وتقلّ نسبة اهتمامنا بكلّ منهم على حدة، لأنّه ببساطة عقلنا لا يُمكن أن يحوي هذا الكمّ من التفاصيل، حتّى لو كانت متاحة.
لكن ماذا لو أزلنا فكرة الهوية من هذه العملية، واختفى المئات من الأصدقاء الافتراضين الذين تعرفهم واستُبدلوا بقلّة من الغرباء مثلاً؟ كيف ستتغيّر العلاقات في هذا العالم الافتراضي؟ هذه هي فكرة وسائل "التواصل مع الغرباء"، وهي موجة جديدة من الموجات التكنولوجية، تُشارك فيها تفاصيل حياتك مع أشخاص لا تعرفهم على الإطلاق، ولا تريد التعرّف إليهم أصلاً.
أحد أبرز تجلّيات هذه الموجة كان برنامجاً للهواتف الذكية، أنتجته مجموعة باحثين من جامعة MIT في أميركا، هو "20 Day Stranger" أو "٢٠ يوماً مع شخص غريب".
فكرة البرنامج أنّه يجمعك مع شخص آخر، من دون أن تعرفا بعضكما. على مدى ٢٠ يوماً فقط، لا يتيح فيها التواصل المباشر بينكما على الإطلاق، بل يأخذ البرنامج على عاتقه أن ينقل ما يجري مع كلّ منكما للآخر. يستخدم لذلك مجسّات الهاتف كي يعرف في أيّ وقت تستيقظ، ويُنبئ الغريب بهذا. وعندما يلاحظ البرنامج عبر الـ GPS أنّك تمشي في شوارع مدينة دبيّ مثلاً، ينقل للآخر صورةً عن محيطك يستخرجها من خرائط غوغل للطرقات (Google Street View).

بالنسبة إلى الملايين حول
العالم "الإنترنت هو فايسبوك"
لنستنتج عمق العلاقة بين الهويّة والإنترنت


الفكرة إذاً ليست تعريفك بدقّة إلى ذلك الشخص بقدر ما هي تخيّلك لغريب عنك له قصّة ما في مكان ما من العالم. ستوفّر طبعاً للباحثين معلومات قيّمة عن كيفيّة تأثير سلوك كلّ منكما على الآخر، إيجاباً أو سلباً، فهل ستكون رياضة ذلك الغريب اليوميّة محفزّاً لك على فعل شيء مماثل؟ أم هل ستجذبك كلّ تلك المطاعم التي يذهب إليها كي تكسر حميتك مثلاً وتذهب إلى مطعم مجاور؟ في كلّ الأحوال، فإنّه في نهاية اليوم العشرين، يمكن لكلّ منكما أن يرسل رسالة واحدة للآخر، يختار فيها أن يكشف هويّته أو أن يقول "وداعاً" فقط، ولهذا التصرّف طبعاً دلالات يُمكن تحليلها.

التعارف ليس الغاية

في هذه الموجة التقنية، التعارف ليس غاية على الإطلاق. بل على العكس، فإنّ الإبهام هو المطلوب فيها. هو إرضاء مزدوج لحبّ الظهور من جهة وحسّ الحشرية من جهة أخرى، ولو مع الغرباء.
يجسّد برنامج مثل Tworlds هذا الإبهام، فهو يمنحك الفرصة أيضاً للتواصل مع غريب يختاره البرنامج بعد أخذك صورة لمحيطك واختيارك كلمات تصف اهتماماتك. ومن ثمّ يتولّى البرنامج مقارنة هذه المعطيات مع مستخدمين آخرين، ويظهر لك صورة من شخص تتقاطع معه اهتماماتك وموضوع الصورة التي أخذتها.

إزرع جميلاً مع من لا تعرفه

قد تكون شبكات التواصل أعلاه ذات أثر نفسي بالأساس، للخروج على السائد من أنواع التواصل، لكنّ لبعضها الآخر أثر حياتي مباشر، إذ أنّه يتيح لك مساعدة أشخاص آخرين عن بعد حين لا يكون هنالك أحدٌ بجانبهم للمساعدة. مثال على ذلك برنامج "Be My Eyes"، والذي يقوم على مساعدة المبصرين للمكفوفين.
على سبيل المثال، يطلب فيه المكفوف المساعدة عندما يريد قراءة مكوّنات عصير معيّن، فيسأل البرنامج المبصرين للتطوّع لإجابته، فيردّ أحدهم، ويرى عندها بالفيديو المباشر ما تراه كاميرا الكفيف ليجيب عن أسئلته. تكثر الأمثلة في هذا السياق، فترى أشخاصاً على هذا البرنامج يتصفّحون صورهم على الحاسوب عبر الاستماع إلى وصفها من شخص آخر في المقلب الآخر من الكرة الأرضية.

تجارب إنسانية إيجابية

ما يجمع بين كلّ هذه التجارب التقنيّة أنّها محاولات للقول بأنّ التواصل من دون تحديد الهويّة هو ليس بالضرورة سبيل الخارجين عن القانون، أو وسيلة لإفشاء الأسرار (راجع مقال بعنوان "وسائل التنافر الاجتماعي" الاخبار تاريخ ٢٤-٣-٢٠١٤)، ولا هو وسيلة تعارف بين أشخاص يريدون ألّا يصبحوا غرباء بعد هذه التجربة. بل هذا النوع من التواصل يؤدّي إلى تجارب إنسانية تطغى عليها الإيجابية.
وعليه، من الضروري الإشارة إلى أنّ ما يجعل تجربة مثل "20 Day Stranger" فريدة من نوعها هو كونها تربط شخصين حقيقيّين من لحم ودمّ يمضي كلّ منهما في حياته الخاصة ويتابعه الآخر.
ولكن مجدّداً: ماذا لو لم يكن الآخر إنساناً، بل كلباً مثلاً، ثبتّ عليه صاحبه هاتفاً ذكيّاً وتركه ليلعب دور الغريب؟ ردّة الفعل قد تختلف بين شخص وآخر، ولكن في كلّ الحالات، نحن مجدّداً أمام عالم لا يعرف أحدٌ فيه أنّ من يتشارك معه التجربة هو كلب وليس إنساناً. وهذا ما لا يجب أن يُستغرب، إذ أنّ العودة إلى مثل هذا الزمن كانت دافعاً أساسيّاً لهذه الوسائل.
السؤال التالي هو ماذا لو كان الشخص الآخر مجرّد آلة تحاكي أفعال الإنسان لتعطيه انطباعاً أنّها شخص حقيقي؟ قد تكون لهذا أبعاد أخرى، إذ أنّنا، مع التطوّر في مجال الذكاء الاصطناعي، نُقدم على عصر آخر، يمكن تلخيصه بالمقولة التالية "على الإنترنت، لا أحد يعرفُ أنّك آلة".
هذا ما قد يخلّ بجمالية هذه التجارب، لأنّ أساسها كان الإحساس بروح تنبض على الطرف الآخر من العالم، وليس بدائرة كهربائية تمدّ حاسوباً بالحياة. حتّى ذلك الحين، لا يسعنا إلا أن ننتظر لنرى.