لافت هو الاستنفار الدولي، والمساعي الغربية والأممية الضاغطة من أجل انتخاب رئيس جديد للجمهورية. وإن كانت لا تزال حتى اللحظة تواجه باستمرار المأزق في بيروت. الفرنسيون كانوا أول من تحرّك. سألوا الإيرانيين، فسمعوا في طهران كلاماً حرفيته أن الأخيرة لا تعرقل انتخاب الرئيس. فهموا الأمر تشجيعاً على المضي في مسعاهم. فيما كان المقصود أن الموضوع هو في بيروت.
وبيروت بالنسبة إلى إيران، تعني أنه لدى حسن نصرالله. والرئاسة عند السيد تعني اسماً واحداً لا غير، هو ميشال عون. فتوقف المسعى الفرنسي على هذا الخط. الأميركيون، من جهتهم، أدركوا تعقيدات المسألة منذ بدايتها. فضلاً عن أنهم غير مضطرين للمزايدة على الطريقة الفرنسية ليثبتوا أن لهم دوراً وموقعاً وحصة على الساحة اللبنانية. أصلاً كل الساحات ساحتهم. وكل المنطقة ضمن سياج مزرعتهم. أنى أمطرت فزرعهم هو من سيرتوي وينبت. لذلك منذ أكثر من عام، لم يظهر أهل واشنطن أي توتر ولا أي تسرع. اكتفوا بالمراقبة وببعض الكلام العام. وحده سفيرهم في بيروت، بحرصه وهدوئه، كان يحاول جس النبض. وفي كل مرة كان يقتنع أن المسألة مؤجلة، ويمكنها، لا بل عليها أن تنتظر. حتى صار الانتظار الأميركي بمقياس الأشهر، وربما الأعوام. فمطلع الصيف يغادر دايفيد هايل إلى باكستان. فيما المرشحان لخلافته، لاري سيلفرمان ورائيل لامبرت، سيكون على أي منهما التعلم من جديد، والتكيف على مهل مع تعقيدات مشهد المستنقع اللبناني، من تلة عوكر.
بين الإحباط الفرنسي والانكفاء الأميركي، يبدو أن الدبلوماسية الأوروبية، وبدفع خاص من باريس، تعمل أخيراً على تكرار المحاولة. لكن هذه المرة بعدة شغل جديدة. وعبر ثلاث حلقات متراكبة، من بيروت إلى بروكسل وصولاً إلى نيويورك. ففي الأمم المتحدة كان العمل على إصدار بيان رئاسي يؤكد على ضرورة إجراء الانتخابات. غير أن الكلام الأممي لم يعرف أي ترجمة محلية مباشرة، خصوصاً أن غياب ديريك بلامبلي أفقد نيويورك لاعباً بيروتياً محنكاً، يحترف إدارة المفاوضات والتركيبات، بين العواصم اللبنانية والمصرية والسعودية. وهو ما دفع الأوروبيين إلى الاستعاضة عن المبعوث الأممي بالمبعوثة الأوروبية. فكلفت أنجيلينا إيخوريست مهمة الضغط باسم المجموعة الغربية على اللبنانيين. حتى أن بعض الأقطاب الذين جالت عليهم، فوجئوا بلهجتها التي لامست حدود ما بعد الدبلوماسية. قامت الموفدة الأوروبية بجولتها على الكبار، محاولة الإيحاء لهم بأنها «الأخت الكبرى». حتى أنها أفادت من كونها امرأة، لتنجو من بعض الردود التي كادت أن تكون عفوية ومنطقية حيال إلحاحها ولجاجتها وتدخلها الفاضح في الشأن اللبناني. حملت رسالة، أقرب إلى النصيحة فالتوصية فالطلب فالأمر... أن تفضلوا وانتخبوا رئيساً الآن، فوراً، وكيفما كان وأياً يكن. المهم أن تنتخبوا رئيساً، لأننا نحن في غرب الرجل الأبيض قررنا ذلك!
لم تحرز أنجيلينا أي تقدم. لكنها بدت كمن يمهد للخطوة التالية: دفع حراك لبناني في الاتجاه نفسه. حراك غير سياسي، يحاول من جهة أولى إدانة كل الطبقة السياسية، ومن جهة ثانية خلق حالة مدنية أو «غير مدنية»، مطالبة بإنجاز الاستحقاق الرئاسي كيفما كان. وقد بدأت ترصد طلائعها. قبل أيام، وعلى هامش تجمع أهالي الشهداء العسكريين في وسط بيروت، طلب بعض المتطفلين على التحرك، تضمينه سقفاً يدعو إلى إدانة كل السياسيين ورفض كل الطبقة السياسية. حتى أن بعض الأهالي المفجوعين كشفوا أن هناك من حاول توظيف كلماتهم في اتجاهات رئاسية واضحة.
من جهة أخرى، وفي شكل متكامل مع «الحراك غير المدني»، بدأت التحضيرات لحراك روحي في الاتجاه نفسه. بكركي تعد على ما يبدو لعقد قمة روحية نهاية هذا الشهر. بعدها يغادر سيدها بيروت متوجهاً إلى باريس، للقاء فرانسوا هولاند. هولاند الذي يبدو كمن أعاد فتح دكانته البيروتية الرئاسية، بإدارة جديدة. فاستعد لاستبدال سفيره بأحد مستشاريه، وافتتح موسمه الرئاسي اللبناني المتجدد، بلقاء وليد جنبلاط قبل أيام...
هي مجرد سلسلة متقاطعة جديدة من متاهات ربح الوقت، أو إضاعته. فيما الاستحقاق الرئاسي اللبناني لا يزال عالقاً عند مدخليه الوحيدين الممكنين: إما أن يتقدم التفاهم الأميركي ــــ الإيراني، بشكل متناغم مع التموضع السعودي الجديد حياله. وإما أن يتفق القادة اللبنانيون الأساسيون، مستبقين الضوء الأخضر الخارجي، أو متنبئين بلونه وتوقيته. ما خلا هذين البابين، ستظل كل الحركة الأخرى بلا بركة. لكن المضني هو كون المدخلين المذكورين مفتوحين على تأجيلات متلاحقة، من دون سقوف زمنية ولا آجال محددة. فمفاوضات سويسرا صارت مفتوحة على الوقت، وحوارات اللبنانيين كذلك. في هذا السياق، وحدها مسألة الموظفين الأمنيين قد تكسر هذه الدوامة من الانتظار. فالموضوع بات في اعتبار البعض خطاً أحمر. وأي تخط له يؤشر إلى حقيقة النيات من قضايا مصيرية كثيرة، يحاول الحوار تغليفها أو تعليقها. فأي تمديد أمني جديد، قد يؤدي إلى سلسلة وخيمة من التفاعلات السلبية. التي قد تجعل حتى الاستحقاق الرئاسي المكشوف عندها، مسألة ثانوية في المسارات الجديدة والخطيرة التي يمكن للوضع اللبناني أن يتخذها. فالمؤكد أن بعد أي تمديد، لن يكون قطعاً كما قبله.
هكذا، باتت لقضية الموظفين الأمنيين إيجابية واحدة على الأقل. أنها وضعت سقفاً زمنياً لمراوحة مفتوحة بين حوارات الداخل البطيئة ومبادرات الخارج العقيمة.