أصابت تصريحات جون كيري حول التفاوض مع الرئيس السوري استنكاراً وصدمةً في أوساط المعارضة السورية، حتّى السيد وليد جنبلاط قال كلاماً غاضباً في حقّ وزير الخارجية الأميركي، وقد أفجعه وأحزنه أن يكون لدى بعض الناس القدرة على تغيير مواقفهم، ونكث وعودهم، والانقلاب على ماضيهم. بالنسبة الى البعض الآخر، تمّ تفسير موقف كيري كنظرية مؤامرة «بأثر رجعي»، بمعنى أنّ هذا يثبت أن اميركا ضدّهم منذ البداية، وهي لم ترد يوماً تغيير النظام، وخطابها كان كلّه تدليساً وخدعة؛ وانهم، منذ أربع سنوات، يقاتلون الأسد وأميركا سوية.
في الحقيقة، فإن الخيبة قد تكون مبرّرة في هكذا حالات (مع فهم أن كلام كيري هو نتيجة لتراكمات معروفة غيّرت، تدريجيا، موازين القوى والموقف السياسي)، ولكن الصدمة وشعور «الغدر» ليسا مبرّرين الا لمن يجعل نفسه أداة لغيره ويتمّ استعماله، ثم يفاجأ ويحتجّ حين يكتشف موقعه.
السياسة الأميركية هي أكثر شفافية ووضوحاً وقابلية للتوقع من الصورة الكاريكاتورية التي يعطيها عنها بعض الناشطين؛ ومن هنا يجب أن نفهم أسباب الافتراق والعداوة معها (وهي عقلانية ومصلحية قبل أي شيء). حين بدأ السفير الأميركي السابق في دمشق، روبرت فورد، بنقد تسليح المعارضة وتبيان الندم على ذلك (بعد تركه لمنصبه)، جوبه بردود فعل مماثلة. الا أنّ معارضاً سورياً، في معرض نقده لفورد، ذكّر بأنّ السفير الأميركي كان يشرح بوضوح ــــ ومنذ البداية ــــ في اجتماعاته مع السوريين أنّ الحرب ليست لعبة، وأن اميركا ستساعد المعارضين في معركتهم، ولكنها لن تتدخل عسكرياً، وعليهم أن لا يبنوا آمالهم على هذا الأساس، وأن يخرجوا موضوع التدخل العسكري عن بساط البحث (مع ذلك، يضيف المعارض، كان الموضوع الأساس لكلّ شخصية تلتقي بالسفير هو تسوّل الغزو الأميركي، والحث عليه، والشكوى من غيابه).
بكلمات اخرى، كانت حكومة فورد وكيري تقول للسوريين من حلفائها انّهم، ان شاؤوا تدمير بلادهم، فلا مشكلة لديها، بل انها ستدعمهم في مسعاهم وتتمنى لهم التوفيق، لكنها لن تزج بأبنائها في المعمعة. ليس صحيحاً أن واشنطن تآمرت مع الأسد ولم تكن ترغب برحيله، بل هي ما زالت تفضّل ذلك، ولكنّها تعرف أن الأمر لن يحصل بطريقة آمنة وبكلفةٍ مقبولة؛ ولو تغيّرت الظروف والحوافز، لتغيّر الموقف الأميركي من جديد (تقوم اميركا اليوم، بعد سنوات على رحيل تشافيز، بتصنيف فنزويلا كدولة تشكّل تهديداً على الأمن الاميركي، كمقدمة لفرض عقوبات عليها، لا لأن اميركا صار لديها أسباب للتشكيك بشرعية النظام في كاراكاس، بل لأن وضع فنزويلا الهشّ يسمح بمتابعة سياسة ضغطٍ ناجعة).
موقف كيري وغيره يتعلّق بنظرة أميركا الى نفسها ومستقبلها وحدود قوتها، وهي أمورٌ لا تُفسّر بعقلية الطفل المشدوه الذي تصدمه عاديات السياسة ولا يفهم لماذا لا يفعل الجميع ما يريده. في الواقع، فقد صدر في أميركا، هذا الأسبوع، مؤشّر أكثر أهمية عن التفكير الأميركي القادم، عبر تقرير «تقييم التهديدات العالمي» الذي قدمته المخابرات الاميركية الى مجلس الشيوخ، وقد أزيلت منه ايران وحزب الله كتهديدات «ارهابية»، وتحولوا الى «خصوم» في الساحة الدولية؛ وللموضوع تكملة.