لولا بعض محاولات، محدودة العدد والتأثير، لأمكن القول ان اليسار العربي غائب عن المشهد السياسي الراهن، بل هو غائب بـ«قوة»! في مرحلة صاخبة ومضطربة يعيشها الشرق الاوسط. وهي مرحلة ستكون شديدة التأثير في مصائر وخرائط دول وشعوب مرشحة لتحولات بعضها دراماتيكي. واضح أيضاً، أن تراجع اليسار قد أسهم في تفشي الظلم والفوضى والتدخل الخارجي، وفي تقدم تيارات أخرى أبرزها التيارات المتطرفة الإرهابية والتكفيرية التي تتصدر الحدث والتأثير راهناً.غياب اليسار العربي والشرق أوسطي سيفاقم ازمته، هذا اذا لم يؤد، غالباً، الى تهديد وجوده نفسه. والمقصود باليسار هنا تشكيلاته المعروفة: الشيوعية والاشتراكية والقومية، وبشكل اكثر تحديداً، تلك التشكيلات التي واظبت على «قديمها» في السلطة او خارجها، رغم كل ما طرأ على المنطقة والعالم من متغيرات، أو رغم كل ما صادفته، هي نفسها، من اخفاقات وازمات وتحديات.
تجربة اليسار في السلطة انتهت بشكل شبه عام، على تنوعها، الى فشل مدوّ اذا قارنا النتائج والمحصلات بالشعارات. وهي، عموماً، جنحت نحو التفرد والاستبداد والحكم بواسطة الاجهزة وإلغاء التنوع (والسياسة عموماً) لحساب التشبث بالسلطة واحتكارها إلى درجة التوريث أحياناً.

لكن، من قبيل الانصاف واحترام الحقيقة، تنبغي ملاحظة أن تجارب اليسار في السلطة لم تكن واحدة، رغم مشتركاتها الكثيرة. ثمة مساهمات فذة قدمها بعض القادة (جمال عبد الناصر مثلاً) بلغ فعلها التحرري قارات بعيدة.
ليس موضوعنا هنا دور اليسار وتجربته في السلطة، وحتى ليس تناول تجارب اليسار الشعبي في محطات النشوء والتبلور. موضوعنا هو النظر في ازمة اليسار العامة وسبل الخروج منها (هل ذلك ممكن أم لا؟)، وكيف يكون ذلك؟ ثم، طبعاً، محاولة تلمس وتحديد دور راهن (ولاحق طبعاً) لليسار استناداً الى اعادة تحديد هويته وعناوين برنامجه العام...
ينبغي القول، بدءاً، ان البرنامج اليساري أمر قابل للتحديد بذاته، لا بالارتباط بسواه من القوى والبرامج كما بدا لبعض اليساريين في مرحلة التراجع والأفول. ان توزع قوى وشخصيات ورموز يسارية على طرفي الصراع، هنا وهناك، بذريعة هذه الاولوية او تلك، كان اقرب الى عملية التحاق وتخل وضياع موقع وبرنامج وقضية.
لا يستوي في ذلك، حكماً، اولئك الذين التحقوا بالقوى الاستعمارية والرجعية بذريعة الحرية او السيادة او الاستقلال، واليساريون الذين اصبحوا جزءاً من تيارات وقوى متعارضة (جزئياً او كلياً) مع القوى المذكورة. لكن في الحالتين حصل تخل عن الموقع اليساري لمصلحة مواقع اخرى. اي جرى التخلي عن الموقع المستقل الذي ينطلق منه اليساري ليتحالف مع فريق ويبتعد من آخر. قد يتعجل البعض، تكراراً، ويساوي بين الاستقلالية والحياد. الاستقلالية لا ينبغي ان تعني الحياد أبداً.
لتجربة اليسار
في السلطة انتهت
الى فشل مدوّ إذا قارنّا
النتائج بالشعارات
ليس من الممكن اصلاً، في ظروف الصراع والتناقض، ان يكون اليسار محايداً فيخسر مبرر وجوده وليس فقط دوره وفعاليته. ينبغي القول في استطراد هذا التمييز، أن التناقض، ولو الجزئي، مع المشاريع المعادية هو فعل يساري حتى حين تمارسه قوى لا تحمل هذا الاسم او لا تقبله. ذلك يعني ان الفعل اليساري المحدود هذا، لا يساوي برنامجاً يسارياً كما ان سنونوة واحدة لا تعني قدوم الربيع! فما هو البرنامج اليساري اذن؟
تقود التجارب، وإخفاقاتها خصوصاً، الى ان البرنامج اليساري ليس مجرد «حساسية اجتماعية» كما ُنظر اليه في مرحلة من المراحل، وخصوصاً لتمييز اليسار الاشتراكي عن اليسار القومي (البعث، الناصرية...)، او لتبرير ارتضاء بعض قادة الاحزاب الشيوعية التقوقع في العمل النقابي بذريعة الصراع الطبقي الصافي وغير المشوب بـ«انحرافات» البورجوازية.
لا شك ان النضال من اجل العدالة الاجتماعية وضد التوحش الاستغلالي الرأسمالي هو أحد الأركان المؤسسة للموقع اليساري. لكن ذلك لا يستقيم الا بالترابط مع استراتيجية شاملة للتغيير، يكون ركنها الثاني، وفق الوضع الملموس، هو تحرير الارض أو الثروات أو مقاومة الهيمنة الخارجية أو الدفاع عن السيادة والاستقلال... اما الركن الثالث، فيتمثل في الدفاع عن الحد الادنى من حقوق الانسان: حرية المعتقد والتعبير والتنظيم وحق المشاركة... ان الاعتداء على حرية وحقوق الانسان الفكرية والسياسية وعلى حقه في المشاركة هي الوجه الآخر، للاعتداء على حقوقه الاجتماعية والاقتصادية التي يجرى انتهاكها بواسطة الاستغلال والحرمان والنهب وبأدوات التضليل والقمع والقهر الداخلية والخارجية.
لقد جرى من قبل منظري التجارب الفاشلة، والتي سقط معظمها، افتعال تعارض بالغ التعسف ما بين الحقوق الاجتماعية والحقوق السياسية. كان ذلك أيضاً جزءاً من إلغاء المشاركة والرقابة واعتماد حكم الاجهزة الامنية وعبادة الفرد. جرى لهذا الغرض استغلال ثغرات طبيعية في نظرية التغيير الثورية. هي ثغرات ترافق كل عملية تأسيس؛ لكنها تصبح قاتلة، حين يجري، لأغراض فئوية، إسباغ صفة القداسة على نص أو سلوك لتبرير تعسف واستبداد ارتقيا في بعض التجارب الى مستوى ارتكاب جرائم ضد الثورة وضد الانسانية (بعض الممارسات الستالينية في الاتحاد السوفياتي وكمبوديا و...). في مجرى التجربة التي سقط معظمها مع انهيار الاتحاد السوفياتي بلغت، أحياناً، درجة الالتحاق وفرض الالتحاق بـ«المركز» مستوى تصوير كل نضال تحرري ضد غاصب او مستعمر أو مستبد... ممارسة قومية شوفينية اذا ما قررت القيادة السوفياتية ان ذلك لا ينسجم مع سياساتها الخارجية!
يجد اليسار أُصول برنامجه في قيم العدالة والتقدم والمساواة، ومبادئ حرية الانسان وحقوقه وكرامته، وأهداف وتطلعات الشعوب في ان تكون سيدة مصيرها: مستقلة ومستقرة ومزدهرة. اما تربة اليسار وبيئته الطبيعية فهي الاكثرية الساحقة من المواطنين في تنوع طموحاتهم الخاصة وتطلعاتهم المستقبلية وتوحد مصالحهم الراهنة في مواجهة العدوان والنهب الخارجيين والاستبداد والظلم الداخليين، ومن اجل بناء مجتمعات حرة مستقلة مستقرة مزدهرة وفق قوانين تحترم حريات البشر وكرامتهم وتوفر لهم فرصاً متساوية، ما امكن، في التقدم والمشاركة وبناء المستقبل.
لا يمكن الحديث عن أولويات عامة لليسار، في هذه المرحلة او تلك وحيال هذه المسألة أو غيرها، قبل تشييد موقعه وبلورة برنامجه وبناء هياكله الضرورية. بعد ذلك فقط يمكن الحديث عن أولويات تمليها مصلحة مشتركة أو خطر داهم أو مهمة لا تقبل التأجيل. ما عدا ذلك عمل فردي صحيح أو خاطئ، لكنه أيضاً استغراق في الأزمة وفي الأفول.
ما تقدم يشترط مراجعة عميقة تفضي إلى إعادة تأسيس عاجلة، منزهة عن كل غرض أو مرض أو تعسف أو تبسيط أو انتهازية أو تنصل أو ذاتية.
هي مهمة وطنية وتحررية وحضارية بمقدار ما هي يسارية.
* كاتب وسياسي لبناني