بوح شخصي: لم تستغرقني قضيةٌ في حياتي، كما استغرقتني القضية السورية منذ أربع سنوات. في كل القضايا السابقة: فلسطين، لبنان، العراق... كانت لدي طمأنينة الشام؛ طالما دمشق سالمة وواقفة، فالأمل باقٍ. دمشق، أيضاً، تلائم وجداني. تلك الضفيرة من العروبة والمقاومة والعلمانية والتعددية الثقافية والاجتماعية، في مدينة لا تزال حية منذ بضعة آلاف من السنين، نسيجها لا يتكرر من تراكم الحضارات والمدنية والكبرياء والبساطة.
كل ذلك، طالما أعطاني الإحساس بالحرية الداخلية ومتعة العيش؛ فلم آبه، يوما، لتنهدات «المثقفين» الليبرالية في النقد الأبله لنظام تابعت سياساته، منذ وعيت، ووجدتها الأكثر عقلانية في بلادنا كلها، جزئياً في السياسات الداخلية، وكلياً وحتماً في السياسة الخارجية. فبالنسبة لي، توصلت، منذ وقت طويل، إلى أن الرئيس الراحل، حافظ الأسد، هو الاستراتيجي العربي الأول، منذ معاوية بن أبي سفيان.
في جميع الأنظمة العربية فساد وفاسدون. هذه، بالطبع، آفة النظام السوري أيضاً. لكن سوريا هي الدولة العربية الوحيدة غير النفطية التي كانت متحررة من الدين العام، وهي الوحيدة التي حافظت على منظوماتها الانتاجية شغالةً، وهي الوحيدة التي يمكنها، بما تملكه من استقلال وتراكم رأسمالي وخبرات وانتاجية، أن تحقق القفزة التنموية والتصنيع المتأخر.
يتميّز النظام السوري، على جميع عيوبه، بأنه النظام العربي الوحيد الذي يضم في بنيته الداخلية، كادرات قومية وتقدمية في مفاصل رئيسية وفرعية. أولئك الذين ليس لهم من مكان في أيٍ من البنى الدولتية العربية.
هذه الإشارات، بالطبع، لا تكفي لوصف سوريا؛ إنما ترسم ملامح القضية التي نقاتل من أجلها، ولماذا هي أمّ القضايا، ولماذا نتوحد بها، ونعيشها في العقل والقلب؛ إنها قضية الدفاع عن الاستقلال وإرادة المقاومة والقدرات التنموية والتعددية الثقافية والقاعدة القومية وأفق العلمانية والتقدم الاجتماعي. هذه هي قضيتنا؛ الامبريالية الغربية والصهيونية والرجعية العربية والعثمانية، تريد تحطيم سوريا، لتحطيم الأمل والمعنى والجدار الاستنادي لحركة التحرر العربية. ليست القضية، إذاً، هي الرئيس بشار الأسد، وإنما هو رمزها.
المخاوف: في المعركة المحتدمة الدامية المستمرة المنهكة، تعلو المطالب العملية الميدانية على المعاني، وتغيب القضية، أو تتوه، أو يُسكت عنها، بينما يتراكم ما هو ضدها. ماذا يعني، بعد، أن نكسب الحرب، ثم نخسر سوريا التي نعرفها ونحبها وتمنحنا الأمل بخروجنا من التخلّف الفكري والاجتماعي؟ ماذا يعني أن نربح الحرب، ثم نخسر العلمانية والتعددية الثقافية؟ حذارِ؛ فإن سوريا التي حوّل الأعداء، أقساما منها إلى بؤر وهابية ورجعية، نعود نحن ونتساهل في ما يحدث من تغيرات فكرية وثقافية ورمزية في قلب دمشق.
الإعلام المرتبط بالمقاومة ــــ بضمنه بعض الاعلام السوري ــــ ينزلق في اليوميّ، وينسى أو يتناسى القضية الجوهرية التي حدّد الرئيس الأسد، مبكراً، محورها، كصراع بين التقدم والرجعية، بين القومية العربية والاخوان المسلمين، بين هوية سوريا المدنية العلمانية والهويات الدينية والمذهبية.
ليس الاعلام، فقط، فضائياتٍ وإذاعاتٍ وصحفا؛ هناك، أيضا، الرموز والإشارات الميدانية والاجتماعية والثقافية على الأرض؛ وهي، كلها، مضطربة، متعددة الأجندات، تغيب عنها، وفيها، قضية سوريا، ومعنى سوريا.
أي إعلامٍ حليف هذا الذي ما يزال يروّج لخونة فلسطين وسوريا؛ ينكأ جراح الجمهورية ــــ التي عليها أن تبتلع حوار حلفائها مع أعدائها ــــ ويساوي، بحجة المهنية، بين أزلام قطر... وبين مصر؟
ولكن، ماذا عن أجندة الاعلام السوري الذي يرى بعضه، في الفضائيات العربية، مثلا أعلى؟ ويحاول أن يكون ليبراليا؟ ويجامل بالسكوت أو القفز عن إشكالية المقاومة وحماس والاخوان المسلمين، ويتجاهل الدفاع عن العلمانية كخيار استراتيجي للدولة السورية، ويقدم السياسة والتيارات في واشنطن، وكأن حضور الولايات المتحدة، بالنسبة إلى سوريا، حضور موضوعي، لا حضور العدو؛ ثم، أخيراً لا آخرا، يناقش العدوان العثماني بـ...» تحليلات استراتيجية»؟ العدوان هو العدوان. ومهمة الاعلام الوطني هو التعبئة الوطنية في مواجهة الغزاة؛ أليس كذلك؟
حذارِ أيها السوريون؛ فقد نربح الحرب ونخسر القضية! لذلك، نحتاج، اليوم لا غداً، إلى قرار سياسي حاسم يضع النقاط فوق الحروف: قضيتنا هي سوريا التقدمية، قلب العروبة النابض المدني العلماني؛ قضيتنا هي قضية انتصار الحركة الوطنية السورية، قضية هزيمة المعتدين الصهاينة والعثمانيين والرجعيين العرب؛ لا طائفية ولا مذهبية ولا ليبرالية ولا معارضة ولا «حوار» ولا مجاملات، ولا تهاون في الهوية والمعنى، ولا فوضى في الرموز، علماً ونشيداً وخطاباً فكرياً واعلامياً، على الشاشات، كما في الشارع والميدان.