راودت المدير العام للتربية الأسبق ومدير الإرشاد الأسبق نقولا الجمّال فكرة إنشاء جهاز للإرشاد والتوجيه في وزارة التربية للمرة الأولى في تسعينيات القرن الماضي. هذه الفكرة كانت وليدة غياب أي جهة تربوية تهتم بطرائق التدريس والتقويم وإرشاد التلامذة لاختيار الاختصاص الذي يتلاءم مع مهاراتهم. العمل في هذا الجهاز بدأ مع استحداث وحدة لمادة اللغة الفرنسية وأخرى لمواد العلوم (رياضيات، فيزياء، كيمياء، وطبيعيات) لمساعدة المنسقين في الثانويات الرسمية.
يومها، جرى انتقاء أساتذة ثانويين لمعظم المواد التي تدرّس بالفرنسية او بالانكليزية، وأرسلوا لاحقاً إلى فرنسا وانكلترا للتخصص في طرائق التدريس والتقويم (Didactique de l’enseignement)، ضمن بروتوكول منح وقع بين الحكومة اللبنانية والحكومة الفرنسية، تقدم بموجبه السفارة الفرنسية بين 10 منح و 15 منحة تخصص في طرق التدريس والتقويم سنوياً.
هكذا، استحدث جهاز للارشاد والتوجيه يرأسه مدير من دون أن تكون له مراسيم تطبيقية، إنما يعمل بموافقة خطية استثنائية من وزير التربية. ويعود غياب صدور المراسيم إلى عدم اهتمام وزارة التربية بإصدار هيكلية عصرية منذ 1959 تأخذ في الاعتبار المستجدات في التربية.
اليوم، تسود قناعة لدى الأساتذة والمديرين بأن الإرشاد التربوي يفرّغ الثانويات من كوادرها، فضلاً عن أنّه مساحة للاسترخاء واللانتاجية. دليل هؤلاء أنّه لم يجر يوماً إعلان وطني عن أثر الإرشاد في التربية وتثمير النتائج المتأتية من لقاءات العمل بين المرشدين والأساتذة لمواكبة المستجدات التربوية ووصل الأستاذ بكل المتغيرات الحديثة التي تعتمدها الدولة في سياستها التربوية وفي مناهجها.
يقول أحد المديرين إنّه «ليس هناك معايير تقوم على أساسها مشاهدات المرشد، فلا تُجمع تقاريرعلى مستوى كل منطقة، ولا تطلق مبادرات تغيير أو تعديل أو تطوير في المناهج، ما يعني أن المنتج الأساسي الملموس من كل العملية هو عدد الزيارات الميدانية للمدارس والثانويات أي 70 زيارة لكل مرشد سنوياً، وهو معيار كمي. حتى الزيارات معظمها وهمي».
التفتيش التربوي يُقر بأهمية دور الإرشاد ووجود أساتذة كفوئين للمهمة، إلاّ أنّه يسجّل بعض الحالات النافرة، منها أن يصبح بعض المدرسين مرشدين ومدربين خلال أسبوعين، وأن يقوّموا أداء أساتذة يفوقونهم خبرة بعشرات السنوات. ومن الحالات التي تسجلها إحدى المفتشات التربويات هذا العام انتقال 8 أساتذة يدرسون مواد أساسية من ثانوية واحدة تضم 30 أستاذاً إلى الإرشاد واستبدالهم بمتعاقدين، وفي كثير من الأحيان يحصل الانتقال من دون علم المديرين الذين يواجهون أمراً واقعاً، ما يحدث إرباكاً في صفوف الثانويات. ومن المفارقات التي تذكرها المفتشة أن تذهب معلمة مجازة باللغة العربية للارشاد في مادة اللغة الفرنسية.
الهاجس الأساسي، بالنسبة إلى التربويين، هو من المسؤول عن تدريب المرشدين وإعدادهم وما هي الإضافة التربوية التي تميزهم عن زملائهم في الصف؟ هل كل أستاذ قابل لأن يصبح مرشداً بين ليلة وضحاها؟ هل المقابلة الشخصية التي ينظمها جهازالإرشاد والتوجيه وتركز على الحضور والشخصية والملف والمعارف والمهارات كافية ليكون المرشد مؤهلاً لمهمته؟ هل المرشدون ملمون بالمؤشرات العالمية في مراقبة نوعية التعليم والطريقة التعليمية وما إذا كانت تلقينية أم ناشطة؟ وهل تندرج زيادة عدد مراكز الإرشاد في إطار تحويلها إلى مواقع للطوائف وأماكن للاستزلام؟ يذكر هنا أنّه لم تنظم في الفترة الأخيرة أي دورة للمرشدين، إذ إنّ الجهاز يعتمد على التحصيل الذاتي لهؤلاء.
تقر مديرة الإرشاد والتوجيه صونيا الخوري بأن عمل الجهاز غير مقونن، إذ لم تنجح اللجان التي ألفها الوزراء المتعاقبون طوال السنوات العشر الأخيرة في إعادة النظر بهيكلية وزارة التربية ومن ضمنها جهازالإرشاد لوضع توصيف واضح لعمل المرشد، كما تقول. وتشير إلى أنّنا «اخترنا هذا عام 179 أستاذاً ثانوياً انضموا إلى فريق يضم 234 مرشداً، أخذ العدد الأكبر منهم في عام 2012، عندما تقرر توسيع عمل الإرشاد، وقد ألفت يومها لجنة لاختبار أهلية الأشخاص الراغبين في الانضمام إلى الفريق».
هل هناك حاجة إلى هذا العدد من المرشدين؟
سحب 179 مرشداً جديداً من الثانويات هذا العام

وماذا عن التوسع الأفقي في استحداث مراكز جديدة بدلاً من تدريب الأساتذة؟ تلفت الخوري إلى أننا «أجرينا دراسة تؤكد حاجتنا هذا العام إلى 299 مرشداً إضافياً لتغطية كل المدارس في لبنان، لذلك فإننا نسعى إلى زيادة عدد المراكز كي لا يتكبد المرشدون عناء التنقل مسافات بعيدة، وخصوصاً أنّهم لا يتقاضون بدلات مالية مقابل الزيارات الميدانية». تنفي خوري معلومات تشير إلى أن المرشدين لا يلتزمون الدوام في المراكز ويختارون المدارس والثانويات بأنفسهم. كذلك تستغرب مقولة يجري تداولها في الأوساط التربوية «بيروحوا عالارشاد ليرتاحوا»، إذ «ليس هناك مجال للراحة والاسترخاء ما دام المرشد ينفذ زيارات ميدانية ويعقد لقاءات تربوية ويقوّم ويصوّب الأخطاء في المسابقات الفصلية لصفوف الشهادات». تقول إن الأساتذة لم يكونوا ينفذون 20 ساعة في الأسبوع في مدارسهم، فالارشاد ألزمهم ذلك. وتشرح أهمية إلزام المكلفين مهمات تربوية في الارشاد والتوجيه بمتابعة تدريس مادة اختصاصهم في الثانويات الرسمية بصورة جزئية، وذلك بمعدل خمس حصص أسبوعياً كحد أقصى في صف واحد من صفوف شهادات الثانوية العامة أو صفين اثنين كي يكونوا على احتكاك بالمادة التي يرشدون فيها ويتفاعلون مع الطلاب. وحول غياب البرنامج التدريبي للمرشدين، تشير إلى أن هناك توجهاً للتنسيق مع كلية التربية في الجامعة اللبنانية في المدى القريب.
في ما يتعلق بمعايير الاختيار، يشترط في المرشح/ المرشحة أن يكون في ملاك التعليم الرسمي، حائزاً إجازة جامعية متخصصة في إحدى المواد التعليمية، لديه خبرة عشر سنوات في التدريس الفعلي، حائزاً إفادة دبلوم تعليمي (طرائق التدريس)، أن يجيد إحدى اللغتين الفرنسية أو الانكليزية وأن يجيد استعمال الكومبيوتر.
توضح الخوري أن «المرشد لا يملك سلطة رقابة وهو لا يتخذ عقوبات مسلكية بحق أحد، ودوره لا يتجاوز مساعدة المعلم في عمله عبر إعطائه توجيهات أكاديمية تصب في خدمة التربية لا تعليمات، وبالتالي لا مبرر للحساسيات بينه وبين من لديهم أقدمية وخبرة، فالمرشد يفيد ويستفيد في الوقت نفسه». وبرغم الاعتراضات التي سجلها الأساتذة الثانويون ورابطتهم لجهة خطورة سحب الكوادر التعليمية الكفؤة والمجربة من الثانويات واستبدالها بمتعاقدين جدد ما سيؤثر سلباَ على نتائج الثانويات الرسمية، ترى خوري أن رابطة اساتذة التعليم الثانوي حريصة على أن يكمل الإرشاد مهماته لأنّها تدرك الدور المنوط به. وتؤكد أن الإرشاد ليس مسؤولاً عن تفريغ الثانويات، فالدولة لا ترفدها بأساتذة جدد عبر مباريات مجلس الخدمة المدنية، فيما يخرج المئات إلى التقاعد سنوياً أو يحوّلون إلى أعمال إدارية، وعندها يصبح التعاقد أمراً محتماً.
هناك من يسأل عن نتاج عمل المرشدين وتثمير التجربة؟ تجيب: «يكتب المرشد تقريره الذي يتضمن ملاحظاته ويرفع نسخة منه إلى المدير وأخرى إلى مديرية الارشاد وتجري متابعتها».




الرؤيا المستقبلية

يحصر المدير العام للتربية الأسبق ومدير الإرشاد الأسبق نقولا الجمّال الرؤيا المستقبلية لتحديث الارشاد والتوجيه بأربعة بنود تكاملية هي: تحديث هيكلية وزارة التربية، انتقاء العدد اللازم من المرشدين وفقاً لمعايير تربوية وإدارية وفنية، اعداد المرشدين وتدريبهم وتجهيز مراكز ثابتة في المحافظات للمرشدين التربويين. في الهيكلية، يركز الجمّال على ما يسميه التكامل بين المربع التربوي: المديرية العامة للتربية، المركز التربوي للبحوث والانماء، التفتيش التربوي وكلية التربية في الجامعة اللبنانية. ويقترح الجمال تحديد عدد المراكز الثابتة للارشاد بعشرة مراكز موزعة على المحافظات وبعض الأقضية الرئيسية. يضم كل مركز نحو 30 مرشداً ومسؤولاً (3 مرشدين لكل من المواد التالية: رياضيات، فيزياء، كيمياء، طبيعيات، لغة عربية، لغة انكليزية ولغة فرنسية وعدد 2 لكل من المواد الاخرى ومسؤول اداري) فيصبح العدد الاجمالي لكل مركز 30 مرشداً ويصبح عدد المرشدين 300 مرشد يمكن اخذهم على دفعات ثلاث تضم كل دفعة 100 مرشدٍ للتمكن من اعدادهم وتدريبهم على نحو جيد.