باريس | ميشال ويلبيك «اختار الطريق التي لا يسلكها أحد» كما تقول قصيدة الشاعر الأميركي روبرت فروست، مُحاطاً أينما ولّى بالمرايا، يجمع صورته المتكررة من هنا وهناك لاغياً ذلك الخيط الرفيع الذي يفصل الكاتب عن شخصياته الروائية، لتتحوّل إلى ضحية لهوسه بالتشويه واستحواذه عليها بالكامل. «أستعين بالصورة الكاريكاتورية التي صُنعت لي وأضيف إليها. أتلذذ كثيراً برسم نفسي كرجل سمين، مسنّ، قذر، بل كسلحفاة عجوز مريضة». لا يكتفي ويلبيك بهذه الجرعة العالية من تحقير الذات حين يُسأل عن روايته «الخريطة والإقليم» (غونكور ـ 2010)، بل يُوقع نفسه فريسة قاتل عنيف يُمعن في تقطيعه وتقطيع كلبه بعد قتلهما، ثم يخلط أعضاءهما حتى ليصعب الفصل بين الأشلاء. يتفنن في وصف جثته التي لم تعد تصلح للدفن ببرودة كلينيكية تُفرغ فعل القتل من أي غاية ليصبح شبيهاً بالعدم. وفي أعماله «توسيع رقعة الكفاح» و«الجزئيات الأولية» و«منصة»، يمتدّ هذا التشويه الهازئ ليشمل حقولاً عدة، في مقدمها الإنسان والحب والعائلة والحياة التي لا أمل في أن تُعاش.
الترويج لخطر الحضور الإسلامي والهجرة «غير القابلة للذوبان في الثقافة الفرنسية والافادة من مكتسباتها»، ما زال يشكّل المهمة المستعجلة لنخبة فرنسية أصبحت مكونة ممن أسمتهم مجلة «نوفيل أوبزرفاتور» بالرجعيين الجدد، من طينة ألان فينكلكروت وبرنار هنري ليفي وأندري غلوكسمان وكارولين فوريست وآخرين كثر يعزّزون صفوف اليمين المتطرّف حين يتعلق الأمر بالتنبيه إلى خطر الإسلام على صفاء العلمانية الجمهورية وبالتالي على القرار السياسي الداخلي. بعدما أخذ الشحن الإيديولوجي والإعلامي أبعاداً هوجاء مع الخبير في الخوف والتخويف اريك زيمور إثر صدور كتابه «الانتحار الفرنسي» ودعوته إلى «ترحيل» المسلمين وتطهير البلاد منهم، تبدو رواية ويلبيك الجديدة «خضوع» توأمها الفكري الذي يلعب على «التخييل» كوسيلة انفلات، أو تحرر من المسؤولية. نجد استكمالاً لأفكار البريطانية جيزيل ليتمان التي تنبأت بتحوّل europe إلى eurabia بعد وصول الإسلاميين إلى الحكم بتواطؤ الديمقراطيين السذّج ولنظرية «الاستبدال الكبير» لرونو كامو وتحريضات زيمور الميزوجينية عن المرأة التي «عندما فشلت في التحوّل إلى رجل، فرضت على الرجل أن يتحوّل إلى امرأة». كل هذا مُغلّف بصورة ماريان رمز الجمهورية الفرنسية، كما نشرتها مجلة «باري ماتش» قبل ربع قرن وهي تغطي شعرها بحجاب.
قوام الرواية الأساسي هو سيناريو افتراضي - يجعله ويلبيك، بشكل عفوي، يتمتع بقيمة الحقيقة المطلقة والكلية - حول فوز مُرشح مسلم في الانتخابات الرئاسية الفرنسية عام 2022. مع انتهاء الولاية الرئاسية الثانية لفرنسوا هولاند، تفوز شخصية ابتكرها الكاتب باسم محمد بن عباس زعيم حزب «الإخوة الإسلامية» بعد حصوله على دعم أحزاب يسارية ويمينية من أجل إيقاف تقدم زعيمة الجبهة الوطنية مارين لوبان وفوزها بسدة الرئاسة. هذه الحبكة يستهلكها الكتاب الذي يضمحل تدريجاً ويموت قبل المئة صفحة الأخيرة. وبدل الاستفزاز أو الخدش المنشود، قد يشعر القارئ بالجوع أو يذهب لوضع الماء في إناء الزهور. حسناً، اعتدنا هذا التوجه عند ويلبيك نحو إبقاء قدميه مغروستين في أرضية الواقع، فيما مخيلته تلامس السقف السوريالي، مع إمكان أن ينهار فوق رأسه هذه المرة. خطوط السرد مثلاً ــ رغم تنوّعها ـ ظلت في مسار واحد، والكتابة تقاومه وهو يحاول أن يلوي عنقها كي تنصاع لموضوع كتابه الرئيس حول حتمية عودة الدين إلى قلب الوجود الانساني بعد فشل أفكار التنوير التي سادت منذ القرن الـ 18 ومهّدت الطريق - دعونا لا ننسى ذلك - لقيام الثورة الفرنسية وإعلان لائحة حقوق الإنسان وترسيخ قيم الطبقة الوسطى فكراً وسلوكاً وسياسة.
جُمل نظيفة ثاقبة ونبرة
متهكمة مراوغة تُراوح بين المناخ الفلسفي ورمزية التفاصيل


يسقط ويلبيك في بئر التنظير: النزعة العقلانية التي نادت بالاستقلالية والتحرر وعدم الخضوع لسلطة الكنيسة وأي وصاية خارجية أخرى، لم تُؤدّ سوى إلى بؤس عاطفي وانسلاخ عن الهوية، والإسلام مُهيّأ ليسود كإيديولوجيا لأن «السعادة تكمن في الخضوع المطلق»، خضوع العبد لخالقه وخضوع المرأة للسلطة البطريركية وخضوع الفرد لقادة وجماعات. هكذا يأتي الدين ليصحّح خطأ أوروبا التاريخي في مَوضوع الحرية كمُنطلق وغاية للفكر الحديث. ماذا لو كان الإنسان دنيئاً يحب العبودية؟ يسأل ويلبيك بتشفّ ويُحمَّل بطله الرئيسي فرنسوا عبء خلاصات أفكاره المعاندة لكل ما اتفق عليه البشر واعتبروه «حياة»، جاعلاً من وجوده فكاهة بحد ذاتها بسبب التضارب العميق بين الفكر الديني كمنهج عام أو قانون للعيش، وبين الفردانية التي تتجلّى في رغبته بأن يكون خارج النظام العام، وداخل نظام الأنا. فرنسوا شخصية ويلبيكية بامتياز، أربعيني منهزم ومهجور يصنع لنفسه حدوداً غير مرئيّة بينه وبين الجميع، حدود باردة وساخرة لأنه يشعر بالعار حين تصطدم أفكاره ومشاعره بمخلفات عالم استهلاكي بارد وقيم إنسانية منحلّة. نرى العالم يرتدُّ عنه، يتهشّم أمامه، وأحياناً يلتصقُ به لكنه لا يخترقه أبداً. عندما يجد فرنسوا جثة في الشارع، يتفاداها بخفّة من يخشى عدم كفايته الرهيبة حين يُوضع وجهاً لوجه أمام الكارثة.
لم يتخطّ صاحب «البقاء حيّاً» مواضيعه الأثيرة، يُبقي نصه الروائي مزيّناً بالفظاعات المعتادة المثالية: بزة دون كيخوته التي نلبسها كي نصطدم بأوهامنا، والحداثة تجعلنا مجرد سجناء يُسمح لهم باستنشاق الهواء في الساحة الفارغة القائمة بين بنايات المعتقل، مُبعدين عن كل حياة حقيقية. النساء يشِخن بأسرع من رفة الرمش، وعلاقات العمل مصابة بخلل متأصّل يمنعها من أخذ شكل الصداقة أو أي شكل آخر. جُمل ويلبيك نظيفة ثاقبة لا تشوبها شائبة - لدرجة تصبح فيها مصدر إزعاج - ونبرته متهكمة مراوغة تُراوح بين المناخ الفلسفي ورمزية التفاصيل (نجد حديثاً عن علاقة كانط بمواقع التعارف على الإنترنت مثلاً)، لكن العمل المُثقل بأفكار آليّة مُنحازة ومتورّطة يبقى بعيداً من الجمال اللاذع لكتابه الأول «توسيع رقعة الكفاح». يمضي القارئ لاهثاً وراء حكاية فرنسوا، أستاذ جامعي في «السوربون» يقسّم وقته بين أدب نهاية القرن التاسع عشر والعلاقات الجنسية الخالية من الشغف مع طالباته. يستعيد أطروحته عن الكاتب الفرنسي من أصول فلامنكية، يوريس - كارل هويسمان، ولويلبيك أن يضخّ فقرات لا متناهية شبيهة بمقاطع ويكيبيديا عن مسيرة هويسمان وأدبه، بينما يسخّن فرنسوا أطباق المأكولات المجمّدة ويقرأ جريدة «ليبيراسيون» اليسارية «بدافع اليأس». يتداخل التاريخي- السياسي من جهة، والإنساني- الفردي من جهة أخرى ويتلاقحان من خلال الظلال التي ترسمها السياسة وانسحاب نتائج الأسلمة على المواطن الفرنسي بشكل مفارقات حزينة، بحيث تسمح الحكومة بتعدد الزوجات وتجبر الفتيات على الزواج في سن الـ 15 (بيدوفيليا؟) وتتخلى النساء القابلات للترويض عن وظائفهن، فتصبح البطالة كابوساً بعيداً، كما تنخفض الجريمة في الأحياء السكنية الفقيرة. يُحكم الرئيس محمد بن عباس قبضته على وزارة التعليم ويُخيّر الأكاديميين بين دخول دين الله الحنيف أو التقاعد والحصول على راتب مريح. بحياد، يراقب بطلنا هذه التراجيديا المهيبة وهو يردد تعاويذ هويسمان: «تداعى أيها المجتمع، مُت أيها العالم القديم».
هذا الصرح المبني من أحجار صغيرة ومتلاصقة، يحمل سياق فكرة واحدة: كلما اشتدّت حركة فكرية عقلانية ما، وبدت طاغية وواعدة بمستقبل مزهر، لا بدّ من مجيء حركة فكرية لاعقلانية، بل أسطورية، تتلوها لتفسد على العقل مسيرته التي كانت تبدو مؤكدة. هذا ما حدث في نهاية القرن التاسع عشر حين لفظت العقلانية التي بشّر بها المفكّرون أنفاسها الأخيرة وراح الفكر الخرافي يسود من دون مقدمات وكثرت الطوائف الممارسة لشتى الطقوس الشيطانية والجنونية. يستعين المؤلف بيوريس - كارل هويسمان الذي كتب رواية À rebours بأسلوب «طبيعي» أدهش إميل زولا، عن بطل سلبي يعيش حياة مسطّحة، لا يقوم بأي شيء يستحق الذكر، باستثناء اجترار أفكار شوبنهاور السوداوية وسرد ما يروقه وما لا يروقه، ويستخدم مجوهراته ليرصّع قوقعة سلحفاته الأليفة، وإن كان سينتهي بالأخيرة إلى أن تنفق تحت ثقل الدُرر. تلقي موجة «انحطاط نهاية القرن» ظلالها على أدب هويسمان، فيبدأ بارتياد حلقات المشعوذين في المجتمعات السرية ويخذل أصحاب النزعات العقلانية الذين كانوا يحسبونه واحداً منهم حين يجمع في روايته «هناك» كمّاً هائلاً من الوثائق المتعلقة بتحضير الأرواح والسحر وعبادة الشيطان والقداس الأسود الذي ينتهي باحتفالات إباحية صاخبة. في سنواته المتأخرة، يقع هويسمان فريسة حالة عصابية تخيّل له أن طائفة شيطانية - ارتاد حلقاتها حقاً - هي منظمة الصليب الوردي، تطارده وتريد قتله ولا يجد الخلاص إلا باعتناق الكاثوليكية كي «يغسل روحه بالكلور». على خطاه، يعود فرنسوا إلى باريس مُساوماً ومُتنازلاً، يعتنق الإسلام ديناً وينعم بمكانة مرموقة في السوربون وبنساء صغيرات «مجانيات» لم يكن قادراً على إغوائهن.
مؤيدو ويلبيك الذين يشبّهون تكهناته الاستباقية بروايتي القرن العشرين الرؤيويتين «1984» لأورويل و«عالم جديد شجاع» لألدوس هاكسلي ويصرخون في وجوهنا بمزيج من المُغالاة والشفقة «أنتم لا تفهمون، هذا أدب!» لا حاجة لأن نسألهم عن السبب الذي يجعل هذه الحُجة تغيب عن أذهانهم حين يتعلّق الأمر بِلوي فيردينان سيلين أو جاك شاردون، كي ندرك أن الرواية تتسلق عمود الاسلاموفوبيا الأعوج لتنصب رايتها فوقه.