بدأت جولة «الكشف الصحي» على إهراءات القمح في مرفأ بيروت عند الساعة التاسعة والنصف. لم يكن الحضور مقتصراً على البشر، شارك في الجولة جرذان حيّة وميتة ومئات الطيور من حمام ويمام تسرح كما يحلو لها داخل الإهراءات. إحدى الحمامات «المسكينة» بدت كأنها عالقة في الداخل، لا تجد مخرجاً لها. التجول هناك خطير، قد تقع قدمك في أي لحظة في بركة مياه آسنة ومبتذلة، كما أن الرائحة الكريهة تجعل من الصعوبة البقاء طويلاً. هنا، أيها اللبنانيون، يوضع القمح الذي تأكلونه. وعندما نتحدث عن «مزبلة» الإهراءات، كما وصفها وزير الصحة وائل أبو فاعور، فنحن نتحدث عن كارثة صحية في كل المخبوزات في لبنان، وعن مزبلة كاملة الأوصاف في مرفأ بيروت تتيح استيراد الغذاء الفاسد وتخزينه في مخازن فاسدة.
«حرام شو عم ياكلوا اللبنانيين، يتشاركون خبزهم مع الجرذان والطيور»، هكذا لخّص أبو فاعور المشهد الذي رآه في الإهراءات. كان ينتظر المسؤولون عن الإهراءات أن يقدموا شرحاً تفصيلياً في أحد المكاتب عن آلية العمل والمعايير، فضّل وزيرا الصحة والزراعة أن يشاهدا بنفسيهما عمليات تسليم القمح والحبوب والتخزين والنقل. أما وزير الاقتصاد والتجارة ألان حكيم فاختار أن يبقى في المكتب، هو جال على الإهراءات وحده كما قال. وصف ما يحدث بالـ»مهرجان»، لا يعجبه ما يقوم به الوزيران.
أصرّ مدير الإهراءات موسى خوري على أنه لا يوجد جرذان، إلى أن ظهر جرذ عملاق وسط بركة المياه الآسنة. وأصرّ أيضاً على أن الشباك الموضوعة تمنع الحمام من الدخول إلى مكان تسليم القمح، إلى أن دخلت الحمامات وحلقت فوق رؤوس الموجودين. سيصرّ لاحقاً على وجوب الفصل بين الإهراءات ومحيط الإهراءات الذي يقع خارج نطاق صلاحيات المؤسسة، وسيدعمه بذلك حكيم. إذا دخلت الجرذان من المحيط، فهل هذا يبرر تركها؟ وإذا كانت النفايات موجودة في المحيط على مقربة أمتار من مكان التسليم مبللة بمياه الصرف الصحي، فهل يعني أن ضررها لا يشمل الإهراءات؟ في الوقت نفسه لا يتحمّل خوري (الذي عُيّن منذ 7 أشهر مديراً للإهراءات) المسؤولية الكاملة عن هذا المشهد المقزز، فالدولة تخلّت عن مسؤوليتها في هذا المكان منذ زمن، بالتالي يجب بحث ملف الإهراءات بالكامل ومحاسبة جميع المسؤولين والإدارات المتعاقبة وهو ما اعترف به الوزراء.
كشف شهيب عن
ادخال باخرة قمح فيها نسبة شوائب 9.2%، بعدما اوقفتها وزارة الزراعة



قرر أبو فاعور إحالة الملف إلى القضاء «هناك مسؤوليات سابقة يجب تحملها».
وزير الزراعة أكرم شهيب كشف لـ«الأخبار» حادثة حصلت منذ 8 أشهر «دخلت آنذاك باخرة ضخمة محمّلة بالقمح فيها نسبة شوائب 9.2%، بينما يجب ألا تتجاوز النسبة 3%، أوقفتها وزارة الزراعة وطلبت ردها. اكتشفنا لاحقاً أنهم أعادوا إدخالها. تحدثت بالأمر في مجلس الوزراء لكن لم تتخذ أي إجراءات». لا يعلم شهيب من أعاد إدخال الحمولة، لكن بالتأكيد ليست هذه الحمولة الفاسدة الوحيدة التي يتم إدخالها، كل هذا يأكله اللبنانيون.
مكان تسلم القمح مفتوح، وُضعت منذ أيام شباك لمنع دخول الحمام واليمام لكنها لم تجدِ نفعاً. كذلك فإن الفتحات التي يتسرّب منها القمح كبيرة، ما يسمح بدخول الجرذان إليها. لا تهوئة ولا عزل، والطيور تنقل التلوث الى القمح.
الانتقال من مكان التسليم إلى مكان النقل يمر ببضعة أمتار من المياه المبتذلة، على هذه المياه تُركن الشاحنات منتظرةً ملئها بالقمح. بمجرّد أن تركن الشاحنات على المياه المبتذلة فهذا يعني أن كل عملية التعقيم باتت بلا جدوى. هيّأت الإدارة أفضل الشاحنات لعرضها خلال الجولة، لكنهم نسوا شاحنة قديمة عليها آثار قمح وأوساخ وصدأ. الحجة نفسها تكررت: «هذه الشاحنة مركونة خارج نطاق الإهراءات، لا نستعملها للنقل». لكن من الواضح جداً أنه نُقل فيها قمح. تهامس بعض العمال الذين كانوا في الجولة عن شاحنات تنقل مواشي وحديداً ومن ثم تنقل قمحاً من دون اتخاذ الإجراءات الصحية المناسبة. يمكن أن نتخيّل حجم البكتيريا والأمراض الذي ينتقل الى القمح بسبب هذا الإهمال الفادح.
أكملت الجولة باتجاه البواخر وأنابيب شفط القمح الى داخل الإهراءات. دلّنا أحدهم على «البيت» الأساسي للجرذان: حاويتان قديمتان من البندق تشكلان مصدر هذه الجرذان. تقع الحاويتان على بعد أمتار أيضاً من الإهراءات لكنها خارج نطاق المؤسسة، وبالتالي يمكن تجاهل الأمر كما يريد المسؤولون. أنابيب الشفط مهترئة وأصبحت مكاناً مناسباً لينبت القمح فيها حيث «زيّنتها» الأعشاب الخضراء. أما الباخرة التي تستعد لإفراغ محتوياتها من الذرة المخصصة للدواجن فقد تسربت المياه إلى داخل مستوعبات الحمولة عن الجوانب وتحوّل لون الذرة إلى رمادي. يقول شهيب إن هذه الحمولة هي علف للدواجن وتعرضها لهذه الظروف يؤدي الى فسادها، وبالتالي إطعامها للدواجن قد يؤدي الى ظهور الأمراض في الدجاج ونقلها الى الإنسان. تحدّث حكيم عن «شوائب» يمكن تصحيحها في الإهراءات، لكن المشهد لا يمكن وصفه بالـ»شوائب». هو إهمال، تقصير، كارثة صحية تشمل الجميع من دون استثناء وتمس عنصراً غذائياً إساسياً هو المخبوزات. وعد حكيم أنه خلال شهر ونصف ستنهي المؤسسة كل الملاحظات التي ذكرها تقرير وزارة الصحة، إلا أن هذا لا يلغي أنه خلال سنوات طويلة أكل المواطنون قمحاً مليئاً بالجرذان والطيور والمياه المبتذلة، وقد يستمر الوضع على هذه الحال ما لم يُفتح ملف الإهراءات ويعالج جذرياً ويحاسب المسؤولون.