يفاجئك في عواصم أميركا الجنوبية، عدم الاهتمام، او المبالاة المتواضعة جداً، بما قد تعتبره حدثاً بارزاً، عنوانه رفع الحصار الأميركي عن كوبا. من بيونس إيرس إلى مونتيفيديو وأسانسيون وسانتياغو، تسألهم عن الخرق التاريخي لجدار واشنطن – هافانا، فتأتيك الأجوبة فاترة، بلا حماس ولا قراءات سببية عميقة، توازي ما يراه آخر ثوار أمميات الأرض، «انتصاراً على الاستكبار». لكن ذلك لا يعفي محدثيك من كشف سر جاسوسي لافت، وطرفة تكرست مع التاريخ.
في الأسباب، يقول المسؤولون السياسيون في عواصم كرة القدم والتانغو والتراتيل، إن السبب الأول لكسر القطيعة بين الولايات المتحدة وكوبا، هو إدراك الطرفين لكون القطيعة في ذاتها قد باتت بلا جدوى، وقد تخطاها الزمن. واشنطن نفسها، عممت على ممثلياتها الدبلوماسية في العالم أن سياستها حيال كوبا باتت «منتهية الصلاحية» (Outdated). وأنها لذلك قررت استبدالها بسياسة «الانخراط بدل الاحتواء». سبب آخر للخطوة، كما يتابع الشرح مسؤولو القسم الجنوبي من القارة الأميركية، أن الناس في البلدين باتوا يعتبرون القطيعة أمراً معيباً، ومؤشراً على عجز السياسيين في البلدين، وعلى مدى كونهم أسرى قوالب إيديولوجية ماضية. مسألة تكفي في ذاتها لتحريك رئيس أميركا. علها تعطيه بعض نقاط إضافية في نتائج الاستطلاعات. نقاط يبدو في حاجة ماسّة إليها، كما حزبه، بعد هزيمة أول ثلثاء من الشهر الماضي، ومع بدء التحضيرات للاستحقاق الرئاسي المقبل بعد أقل من سنتين.
وفي السياق نفسه، يكشف أحد وزراء الخارجية الأميركيين الجنوبيين، أن أوباما كان قد تلقى نصيحة بهذا المعنى من سلفه جيمي كارتر. إذ لم يتردد الرئيس الذي أسقطته قضية الأسرى الأميركيين في طهران، في أن ينصح خلفه الذي فتح باب الرسائل المتبادلة مع الإيرانيين، بكسر القطيعة مع هافانا. قال كارتر لأوباما: «لو أنني قمت بذلك قبل 35 عاماً، لتمكنت ربما من الفوز بولاية ثانية. الآن أنت في نهاية ولايتك، فلا تخشَ الخطوة، لا بل أقدم عليها بلا تردد». هكذا، وفضلاً عن الدوافع التجارية الطفيفة، والأسباب الإنسانية المتذرع بها، يعتقد سياسيو الجنوب الأميركي بأن أكثر ما شجع أوباما هو الاعتبار الشخصي. ان يترك أثراً تاريخياً مسجلاً باسمه. أن يكرس بصمة خاصة به في سجل التاريخ الأميركي. وهو ما لم يتمكن من الاطمئنان إلى تحقيقه في العراق، ولا في أفغانستان ولا في تصفية بن لادن ولا حتى في نيله نوبل للسلام مع بداية عهده. أراد أوباما «ماركة مسجلة» باسمه في تاريخ بلاده المعاصر، فتلقف وصية كارتر وفتح خط هافانا.
في الوقائع، يقول سياسيو الجنوب أن الخطوة المحققة مهمة. وما سيليها قد يكون متسارعاً. انفتاح في مجالات انتقال الأشخاص والبضائع. رفع قيود تجارية ومعلوماتية. إسقاط إجراءات حظر كثيرة، بعضها مباشر من واشنطن، وبعضها الآخر عبر أطراف ثالثة. مع ترقب احتمال مشاركة البلدين، واوباما وراوول كاسترو شخصياً، في «قمة الأميركيين» المقبلة في بنما، وذلك للمرة الأولى في تاريخ هذه القمة المنعقدة في مؤتمرها السابع.
لكن على هامش تلك الأسباب والوقائع، يكشف أحد سياسيي أميركا الجنوبية، سبباً آخر للخطوة. يقول إن ما لم يتم التركيز عليه في وسائل الإعلام، هو هوية السجناء الذين أعلنت هافانا إطلاق سراحهم. ذلك أن الأضواء تركزت بشكل رئيسي على ألان غروس، الموظف في وكالة التنمية الأميركية، الذي اعتقلته سلطات هافانا منذ العام 2009 بتهمة التجسس. غير أن العنصر الأساسي في صفقة تبادل المعتقلين، لم يكن غروس، بل مواطن كوبي معتقل في بلاده منذ العام 1995. وهو العميل الرئيسي لوكالة المخابرات الأميركية المركزية. وهو شكل مصدر المعلومات الأكثر قيمة وأهمية لدى لانغلي طيلة أعوام طويلة. وبفضل اختراقه لعالم المخابرات الكوبية، تمكنت واشنطن من إلقاء القبض على العديد من عملاء هافانا ودول أخرى في واشنطن واوروبا، إلى أن تم كشف هويته واعتقاله سراً في كوبا سنة 1995. ويؤكد السياسي الأميركي الجنوبي، أن الدوائر الاستخبارية الأميركية كانت قد بدأت منذ اعوام حملة ضغط على واشنطن من أجل إبرام صفقة تبادل مع هافانا، تشمل العميل الكوبي إكس. مؤكدة أن ترك عميل بهذه الأهمية نحو 20 عاماً في سجون العدو، قد سدد ضربة قاسية لسمعتها، كما لقدرتها على اختراق خطوط العدو وتجنيد عملاء مثمرين لها في حقول خارجية دقيقة بالنسبة إلى الأمن الأميركي. وهو الملف الذي شكل عاملاً حاسماً في توجه أوباما إلى تحقيق تلك الخطوة.
تبقى الطرفة ــــ المفارقة التي يرددها السياسيون كافة في مختلف عواصم أميركا الجنوبية. يقولون إنه بعد فترة قصيرة على اغتيال تشي غيفارا سنة 1967، شاعت في تلك القارة طرفة تقول أن غيفارا اتصل بكاسترو من سماء نضاله، مطمئناً إلى أرض ثورته. وبعد تقرير مسهب من الرفيق فيديل، قال له تشي: وماذا عن الحصار الأميركي على ثورتنا؟ فأجابه كاسترو: للأسف لا يزال الحصار مضروباً. وقد يحتاج كسره إلى بابا من عندك في روما، ورئيس من لوننا في البيت الأبيض ... انتهت الطرفة الأميركية، وانتهى الحصار الأميركي لكوبا، في ظل رئيس أسود لأميركا وبابا أرجنتيني – موطن غيفارا – في روما!