الذين يعرفون الرئيس نجيب ميقاتي يدركون جيداً أنه يفضل كسب أي سباق في حياته السياسية على طريقة الأرنب والسلحفاة. فالرجل غير مستعجل إيماناً منه بالقاعدة التي تقول «من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه».في إطلالته الإعلامية مع الإعلامي مرسال غانم في 14/12/204، قال الرئيس ميقاتي «إنني أمثل حالة ثنائية مع تيار المستقبل، وأنا على استعداد لشراكة كاملة، إنما متساوية». إنها مواقف سياسية واضحة، هادفة ومتصلة مباشرة بالسياسة اللبنانية في جانب منها، وفي الساحة السنية في لبنان في جانب آخر. وما أعلنه الرئيس ميقاتي كان متوقعاً ومحط مطالبة لدى الكثيرين، ولكنه كعادته يحتفظ دائماً بمسألة التوقيت، وهي في علم السياسة فن، قلة من رجالات السياسة تتقنه.

لماذا هذا التوقيت؟ يبدو أن ميقاتي راقب وتتبع بشكل حثيث حركات التململ والرفض السائدة في الساحة السنية، وخاصة في طرابلس والشمال لمن ينصب نفسه الزعامة الوحيدة في الطائفة السنية ويرفض أي شريك له فيها، مع العلم بأن مرحلة جديدة بدأت، عنوانها «ضرورة وجود الشريك، والخطأ السياسي الفادح يكمن في أن من ينصب نفسه الزعامة الوحيدة، لم يقرأ تاريخ الحركة السياسية التي قامت على قاعدة الثنائية وسادت الساحة السنية في لبنان، حيث لم يسبق أن ألغى أحد الآخر.
أصاب الرئيس ميقاتي
النجاح الكافي ليكون شريكاً في الساحة وتخلى عن عادة عدم الإفصاح
فمع الرئيس رياض الصلح في بيروت، كان في طرابلس الرئيس عبد الحميد كرامي. ومع الرئيس الراحل صائب سلام والرئيس سامي الصلح وغيرهما كثر في بيروت، كان المرحوم رشيد كرامي في طرابلس، ومع الشهيد الرئيس رفيق الحريري والرئيس سليم الحص في بيروت، كان الرئيس عمر كرامي في طرابلس، ومع الرئيس سعد الحريري وفؤاد السنيورة في بيروت، كان الرئيس نجيب ميقاتي في طرابلس. ولكن في ظل ظروف مغايرة، وأجواء طغت فيها معايير الخاص على العام، ومعايير اللعبة السياسية من الثنائية الى الأحادية، أوصلت الطائفة السنية الى عنق الزجاجة وعلى كل المستويات. فالثنائية على مستوى رئاسة الحكومة كانت منذ إعلان الاستقلال، وكانت تشكل عامل ضمان واستقرار في الساحة السنية. وكانت اللعبة تدار بمعايير وطنية أولاً، وكانت توزع الأدوار بين مرجعيات الطائفة السنية على مستوى رئاسة الحكومة وفقاً للظروف والأحوال السائدة ثانياً، كانت على المستوى الوطني الداخلي، أو العربي والإقليمي، ولم يكن في نهج وفكر هؤلاء إلغاء الآخر، وهيمنة الخاص على العام.
مما لا شك فيه أن الساحة السنية في لبنان والمحيط تمر بمرحلة شديدة الخطورة والتعقيد، وما فعله الرئيس ميقاتي في إعلانه لمواقفه يصب في خانة العمل على إعادة رسم خريطة سياسية جديدة تبدأ في الساحة السنية في لبنان وتتصل بالمكونات اللبنانية الوطنية الأخرى، وربما أبعد، لأنه لا حياة لسياسة تستوطن وتستقر في عنق الزجاجة. والرئيس ميقاتي أصاب النجاح الكافي ليكون شريكاً في هذه الساحة. فهو أنقذ لبنان مرتين، الأولى في عام 2005، عندما استنكف عن الترشح إلى الانتخابات النيابية وبادر إلى تشكيل حكومة وطنية، أنجزت انتخابات نيابية حققت استمرارية عمل المؤسسات الدستورية والسياسية للدولة، وإنجازات أخرى كثيرة، كل ذلك في ظل ظروف محلية وإقليمية معقدة كادت تطيح لبنان الذي كان في عين العاصفة؛ والثانية في عام 2011 عندما وصلت الحالة في لبنان الى حد الانقسام العمودي وكادت أن تطيح الكيان برمته نظراً إلى التشرذم الوطني الحاصل في الداخل وثقل وهول ما يحدث في المحيط. وكان من نتيجتها إسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري لتنفيس الاحتقان، وإبعاد الانفجار الخطير، عن الساحة اللبنانية. بادر الرئيس ميقاتي الى القبول بتشكيل حكومة إنقاذية، ولم يفلح، فشكل حكومة وطنية لإخراج لبنان من عنق الزجاجة وتجنب الانفجار الوطني الكبير. واتُّهم حينها بأن قبوله بتشكيل حكومة هو استيلاء على حقوق الغير، والحقيقة أن تكليفه جاء في سياق منطق التطورات اللبنانية والإقليمية، ومع العلم بأن تسميته لرئاسة الحكومة كانت نتيجة لاستشارات نيابية أجراها رئيس الجمهورية، وتكليفه كان دستورياً، ونالت حكومته الثقة من مجلس النواب بالطرق الدستورية ، ولم يكن كما يدعي البعض استيلاءً أو انقلاباً، وشنت عليه حروب ضروس عنوانها التعرض لشخصه لا لأعماله، مع العلم بأنه قدم وحقق لمصلحة من أعلنوا الحرب عليه أكثر بكثير مما كانوا سيحققونه فيما لو كانوا هم في الحكم والسلطة، بدءاً من تمويل المحكمة الدولية، مروراً بالحفاظ على المواقع الإدارية وغيرها، وصولاً الى حماية مصالحهم، وهو كان يحافظ على هذا النهج احتراماً منه وحفاظاً على الصيغة اللبنانية كرئيس لحكومة كل لبنان واللبنانيين.
في كل الأحوال، الرئيس ميقاتي في إعلانه لموقفه لم يكن كعادته يكتفي بالتلميح، بل اعتمد التصريح وإعلان الموقف، معتمداً على فهم الآخرين. وقد فهم الجميع أن موقفه ولد بعد ترقب، وكان استجابة، وهو موجّه بالدرجة الأولى الى الطائفة السنية، وفي الدرجة الثانية الى الواقع اللبناني، وربما الى ما أبعد من الحدود اللبنانية، وخاصة أن موقفه أتى بعد عودته من زيارات خارجية متعددة. فعلها الرئيس ميقاتي بأن أحدث الصدمة الإيجابية، محسناً التوقيت، منصّباً نفسه شريكاً في ما صغر وما كبر، وهو ابن طرابلس والشمال ، قلب لبنان وخزان رجاله.

باحث في القانون الدستوري