في ميدان الأيديولوجيا وصراعاتها، من المعروف أنّ أكثر الوسائل فعالية للقضاء على نظرية ما لا تكمن دائماً في محاولة وأدها ومجابهتها، بل في ترويجها بحسب مفهومك الخاص لها. هذا هو التحوير الذي تعرّض له، عبر العقود، مفهومٌ مثل «العروبة»؛ فانتقلت من كونها مفهوما سياسيا، تغييريا، له معنى أيديولوجي وعملي محدّد، بدءاً بحتمية الوحدة واصطناعية الحدود، إلى أن يجري ترويجها – في العصر الخليجي – كمفهوم نُزع منه أي محتوى أيديولوجي، وتحوّل إلى صفةٍ إثنية خالصة، لا يبقى منها إلا كل ما هو سيّئ في القومية: العنصرية، والعداء البدائي للآخر.
منذ أيام، ألقى فؤاد السنيورة خطاباً مطوّلاً في عمّان، خلال حفل لتكريم رجل أعمال فلسطيني راحل، كان من اللافت فيه أنّه ارتكز، في استعراضه لقضايا المنطقة وتحدياتها، على مبادئ مستقاة – كلّها – من خطاب حركة التحرر العربي (الناصرية تحديداً)، ولكن باستعمالٍ سياسي يحيل هذا التراث إلى ضدّه.
يشدّد السنيورة مثلاً، كقوميي السبعينيات، على أنّ الأولوية الأساس للعرب هي «النضال من أجل تحرير فلسطين بشتى الوسائل والسبل»؛ ولكن «فلسطين» هنا تصير محصورة ضمن حدود الـ1967، وطريق «التحرير» بالنسبة إلى السنيورة واضح: «المبادرة العربية للسلام (يكرر ذكرها ثلاث مرات خلال الخطاب)... التي لم تحظ بما تستحقه من اهتمام ودعم ومتابعة، لا من الجامعة العربية، ولا من الدول التي عملت على طرحها». كأن ما منع إسرائيل من قبول حل الدولتين، وإعادة الأراضي المحتلة في الضفة، كان تلكؤ العرب عن متابعة مبادرة السلام بالشكل اللائق.
هكذا أيضاً يُستشهَد بمؤتمر باندونغ وحركة عدم الانحياز (من دون ذكر ناصر طبعاً)، ولكن بغية تقديم الحركة العالمثالثية كحالة «حياد» أيديولوجي بلا موقف؛ ويجري الكلام عن العروبة، ولكن ضمن مفهومٍ مبهم، غير سياسي، عن «التكامل»، لا يطالب بوحدة، ولا يهدد بتغيير الموجود. غير أن أطرف ما قاله السنيورة، ممثّل القوة الخليجية والأميركية في بلاده، كان في توصيفه لنفسه ومعسكره: «نحن نقاتل منذ عقود على جبهة مواجهة العدو الصهيوني، وعلى جبهة منع الاختراقات من دول الجوار، وعلى جبهة الغَلَبة الدولية».
لا داعي إلى التساؤل عن هوية الـ»نحن» هنا، فالسنيورة يرى بوضوح، على طول كلامه، أن أزمة فلسطين لا تنبع من أفعال النظام الرسمي العربي، الذي أوصل أرضنا المحتلّة، عن قصد، إلى حدّ الضياع؛ بل في الخروج عن نهج هذا النظام وحكمائه. بمعنى آخر، هو يرى أن فلسطين، لو تركت فقط في أيدي آل سعود وأولاد زايد، لما كان هناك من خشية عليها. حين يعبّر السنيورة عن كربه من الوضع العربي الحالي، يقتبس أحد أشهر أبيات الشاعر مظفر النوّاب، بعد أن يشوّهه (حتى الشعر!). المشكلة هنا ليست في أن يكسر سياسيّ بيتاً شهيراً لشاعر معروف، بل في أن يشتكي فؤاد السنيورة، ومعسكره، من الردّة التي تقتلنا.