كان عدد من المشاركين في مؤتمر تحت عنوان «الزبائنية كرابط بين الناخبين والأحزاب السياسية»، الذي نظمه امس المركز اللبناني للدراسات ومؤسسة كونراد أديناور، يتفاعل بإيجابية مع الكلمات التي انتقدت الزبائنية وآثارها الاجتماعية-الاقتصادية السلبية، حتى أتى الوزير السابق شربل نحاس على ذكر المشهد الذي بثته القنوات التلفزيونية منذ أيام لأقارب «محاسب» الزعامة الجنبلاطية بهيج أبو حمزة يتوسلون النائب وليد جنبلاط لإخراج قريبهم من السجن، حيث قالت إحداهن إنه «لا زعيم غير وليد بك» لها ولصحبها، «مهما فعل» الأول بهم! عندها انتفض المشاركون «الجنبلاطيون»، رافضين تناول زعيمهم بالنقد، وغادر عدد منهم قاعة المؤتمر!
لم يشفع لنحاس ذكره «وفود المياومين» التي سبّحت بحمد رئيس مجلس النواب نبيه بري، أحد أبرز أركان النظام اللبناني ما بعد الطائف، أو المسحوقين الذين يهتفون لحياة الرئيس سعد الحريري حين يطل عليهم إعلامياً من «منفاه» المرفه. وإن رأى البعض أن رد الفعل «الجنبلاطي» هذا مثال صارخ على «ثقافة» الولاء المطلق للزعيم، شرح نحاس أن «الزبائنية» أو «المحسوبية» ليست مجرد «آفة» فكرية وسلوكية طارئة على النظام اللبناني، بل هي «حاجة وظيفية» للنظام القائم على التمويل الخارجي وشراء ذمم الغالبية العظمى من المواطنين.
يستغرب مدير المركز اللبناني للدراسات سامي عطالله أن يقول نائب في مقابلة تلفزيونية بكل صراحة أن «شغلته يعمل خدمات» شخصية بشكل مباشر أو من خلال «مؤسسات اجتماعية وخيرية» يملكها، مشيراً إلى أن الانتخابات النيابية ما عادت تعني اختيار الشعب لممثليه، وأن «المعادلة انقلبت، فبات النواب يختارون ناخبيهم» عبر تقديم «الخدمات» أو بالأحرى الرشوى الاجتماعية الواسعة النطاق في الدوائر الانتخابية المفصلة على قياس الممسكين بالسلطة من المرشحين، «فانتهى دور المساءلة والمحاسبة»، ولم يبق للنواب حافز لمجرد التفكير في المشاريع الإنمائية، برغم «تضمن كل بيان وزاري منذ الخمسينات لعبارة «الإنماء المتوازن»». من شأن الإصلاح الانتخابي أن يكسر حلقة الزبائنية هذه «من الزعيم إلى قبضاي الحي»، قال وزير الداخلية والبلديات الأسبق زياد بارود.
إدارة قنوات الرشوى
الاجتماعية المنتظمة محل «إجماع السياسيين كافة»

عُلق منذ زمن تطبيق القاعدة القائلة إن صفة المواطنة كافية للتمتع بالخدمات العامة، وبات المواطن يسدد ثمن الخدمات تلك «من لحمه الحي ومن كرامته» لحساب «الطبقة السياسية الأخطبوطية» التي رهنت المصالح العامة وحقوق المواطنين «للتوافق» فيما بين أركانها، يضيف بارود، عازياً السبب لمرور «أجمل الكلام في الدستور» إجبارياً في ممر قانون الانتخاب، معلقاً رهانه على قانون الانتخاب النسبي لكسر الاحتكار السياسي الذي ينتجه النظام الأكثري.
في المقابل، يرى نحاس أنه ليس صحيحاً أن الجميع يرى مشكلة في نظام المحسوبيات القائم، مرجحاً أن تكون الغالبية حريصة على استمرار النظام، عكس الاعتقاد السائد. يدعو نحاس من يعون خطر النظام على بنية المجتمع إلى العمل على كسر النظام ونبذ «شلة المفردات» الرائجة، كـ»المجتمع المدني والحوكمة»، مشيراً إلى أن الأخيرة من عدة «قولبة المفاهيم» وتدجينها تحت سقف النظام، إضافة دراسة أخرى إلى «مجلدات» الدراسات حول الزبائنية هو «ترف بالوقت» لا يملكه اللبنانيون، رأى نحاس، ساخراً من «المناشدات» التي تسعى لـ»لفت نظر الزبون» لخطورة الصفقة، حيث يبيع ولاءه مقابل المنافع و»الحماية». القوى السياسية المحلية هي «موضوعياً بحاجة للمال» للإنفاق على الحراس والضيافة والترويج الإعلامي، و»الطريقة الأسهل» لتأمين «الحاجات» تلك هي التمويل الخارجي، يقول نحاس، مشيراً إلى تفريخ «العدد الهائل من أصحاب المليارات» المحليين، وإلى عدم إقدام أي من البلديات الـ900، «دون استثناء»، على تقديم مراجعة للحصول على مستحقاتها المالية من الهاتف الخلوي بعد خوض «معركة» لانتزاعها ووضعها في حساب مجمّد لدى مصرف لبنان! فحوى كلام نحاس أنه لا يمكن تفسير الظواهر الاجتماعية السياسية الشاذة كهذه بغير فهم تركيبة وطريقة عمل «الإطار الاقتصادي العام»، أو بالأحرى التركيبة الاجتماعية بأبعادها كافة. منذ مطلع التسعينيات، دخل الدورة الاقتصادية المحلية 175 مليار دولار من الخارج، أُنفق 150 مليار منها على الاستهلاك؛ والمبلغ الأخير كافٍ لشراء ذمم جميع من في لبنان ونفخ جيوب المصارف في الآن نفسه، يقول نحاس! اعتمد السواد الأعظم من المواطنين على «قنوات التوزيع الثانوي» للأموال تلك، فطغت على «قنوات التوزيع الأولي»، أي على المداخيل المتأتية من الأجور والتوظيف المنتج، يقول نحاس، لافتاً إلى أن إدارة قنوات الرشوى الاجتماعية المنتظمة تلك، والحرص على عدم المساس بها، محل «إجماع السياسيين كافة»، ما يعني أن الزبائنية أو المحسوبية «حاجة وظيفية (للنظام اللبناني) لا علاقه لها بالثقافة السائدة أو بالأديان».
قد يختلف أركان النظام اللبناني على أمور كثيرة (أبرزها الحصص والمغانم) وصولاً إلى حد تعطيل المؤسسات الدستورية كافة، وإثارة العصبيات إلى حد دفع البلاد إلى حافة الحرب الأهلية، لكن خلافاتهم لم تمس يوماً أسس النظام الذي يضمن بقاء سلطتهم، على حساب أمن ورفاه غالبية المواطنين، أو بالأحرى الرعايا. فبرغم الخلافات الكثيرة حول تقسيم الدوائر الانتخابية والنظام الانتخابي المعتمد، لم يعترض أي من أركان النظام على «الرشوى المقنعة (التي) شرعنها قانون الانتخاب»، أو بالأحرى قوانين الانتخاب كافة، وفق رئيس المجلس الدستوري عصام سليمان، الذي يشرح أن القوانين المذكورة نصت على السماح لمن «دأب على توزيع المساعدات للسنوات الثلاث السابقة (للانتخابات)» بمواصلة الرشوى المنظمة تلك خلال الانتخابات. أجرى المجلس الدستوري تحقيقات عديدة مع «من يظنون أنهم زعماء كبار» حول قانونية إنفاقهم الانتخابي من خارج قنواتهم «النظامية» تلك، لتصطدم التحقيقات بجدار السرية المصرفية (وهي بدورها محل إجماع النخبة الحاكمة)، بحسب سليمان.