مناصرون لقائد السبسي يشاركون في مهرجان انتخابي في الكاف (أ ف ب)
للمرّة الأولى في تاريخهم، سيضطرّ التونسيون إلى السهر طويلاً ليل غد، للتعرّف إلى اسم رئيسهم. وهو ما يرى فيه المتفائلون إنجازاً، فيما يذكّرهم بعض المتشائمين بأنّ الرئيس المقبل سيحكم «طيلة السنوات الخمس المقبلة، وربّما أقلّ». يتندّر بعضهم، بخبث، بأنّهم سيصوّتون للباجي قائد السبسي (88 عاماً)، فقط لأنّهم يتوقّعون وفاته، بما سيسمح لهم بالتمتّع قريباً بانتخابات جديدة، قبل أوانها. لا يتوقّف «تشاؤل» التونسيين عند هذا الحدّ، فمعجم الشكّ والتشكيك والتساؤلات الحائرة هي الطاغية على المشهد اليوم. وأول التساؤلات القلقة هو عن إمكانية أن تصمد «الديموقراطية الناشئة»، الوحيدة الناجحة في بلدان ما سمي «الربيع العربي» «الناجحة إلى حدّ الآن» يضيف المتشائمون.

تستند هذه المخاوف بالأساس إلى أمرين. الأوّل يتمثل بالوضع الإقليمي المضطرب، من سوريا إلى مصر وصولاً إلى الجارة الغربية ليبيا، حيث الحرب الأهليّة وحيث وجدت بعض التنظيمات الإرهابية موطئ قدم. وقد ضاعفت من هذا القلق التهديدات الأخيرة التي أطلقها أحد قادة الارهاب «الجهادي» في تونس، ويكنّى بـ"أبو بكر الحكيم"، والتي تبنّى فيها، للمرّة الأولى، الاغتيالات التي عرفتها تونس خلال السنتين الماضيتين.
أمّا الثاني، فيتعلّق أساساً بحدّة التوتّر الذي شهدته الحملة الانتخابية للدور الثاني من الانتخابات الرئاسية. إذ لم يتوقّف المتنافسان، المنصف المرزوقي (69 عاماً)، الرئيس الحالي، وغريمه الباجي قائد السبسي، مرشّح «حزب نداء تونس»، وخاصّة المساندين لكليهما في حملتيهما، عن تبادل الاتّهامات والضربات «تحت الحزام».

أجواء مشحونة بالتوتر

أوّل الاتّهامات المتبادلة: السعي إلى «تقسيم المجتمع وتهديد الوحدة الوطنية». وبدأ هذا الجدال غداة نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة، التي عرفت انتصار «نداء تونس» (ائتلاف لكوادر حزب التجمّع المنحلّ مع نقابيين وليبراليين ويساريين سابقين)، على منافسه الرئيسي «حركة النهضة» (ذي الأصول الإخوانية)، الحليف الأساسي للمرزوقي في هذه الانتخابات. إذ أوضحت النتائج تفوقاً لـ«النداء» في ولايات الشمال، ولـ«النهضة» في ولايات الجنوب، فيما تقاسما النفوذ في ولايات الوسط. وهو ما أثار بعض التعليقات والتحليلات لهذا «الانقسام بين الجنوب والشمال»، وكان البعض منها غير موفّق، فيما أُخرج أغلبها من سياقه بهدف تشويه المنافس. إلا أنّ أعلى لحظات التوتّر كانت بلا شكّ عندما نعت المرزوقي منافسه قائد السبسي، من دون أن يسمّيه، بـ«الطاغوت» (وقد اعتذر عن «زلّة لسانه» لاحقاً)، وأيضاً، عندما قال الثاني، في تصريح لإذاعة فرنسيّة، إنّ «السلفيين الجهاديين يساندون المرزوقي»، الحقوقي، العلماني المعتدل، كما يصف نفسه.
انعسكت هذه الأجواء بشكل أوضح، وأفدح، لدى أنصارهما. إذ لا يتردّد مساندو المرزوقي في نعت السبسي بـ"العجوز الخرف» وبـ«الغول» (نظراً للخشية من «تغوّل» حزبه إن أضاف الرئاسة إلى الحكومة وأغلبيته البرلمانية)، فيما يصف أنصار الثاني المرزوقي بـ«المهبول»، بعدما واظبوا على نعته بـ"الطرطور» طوال سنوات حكم «الترويكا» السابقة.

لعبة الاصطفافات

بعد النتائج المتقاربة في الدور الأوّل (39.46% لقائد السبسي مقابل 33.43% للمرزوقي)، بذل المتنافسان قصارى جهدهما لاستقطاب أصوات أنصار أبرز المرشّحين المنهزمين في الدور الأوّل. وتقوم استراتيجية كليهما على التخويف من المنافس. فأنصار قائد السبسي يصوّرون المرزوقي على أنّه «مرشّح حركة النهضة»، وأنّ بقاءه يعني استمرار عنف ميليشيات «لجان حماية الثورة»، ضدّ معارضيها، وكذلك استمراراً للتسامح مع السلفيين و"الإرهاب". فيما يصوّر أنصار الثاني قائد السبسي على أنّه «مرشّح النظام القديم وحزب التجمّع المنحلّ» وأنّ وصوله سيعني نهاية المسار الديموقراطي وعودة سياسة «الاستئصال» ضدّ الإسلاميين، قبل المرور لقمع بقيّة المعارضة، كما جرى في عهد بن علي، ويجري الآن في مصر.
وبرغم المبالغة، فإنّ هذين الاتهامين لا يخلوان من الحقيقة. فمن الواضح أنّ قواعد «حركة النهضة»، فضلاً عن بعض قياداتها البارزة (من بينها الشيخان الصادق شورو والحبيب اللوز القريبيْن من السلفيين)، تساند المرزوقي، الذي تعتبره الأقدر على «منع إعادتهم إلى السجون». وذلك رغم حرص رئيسها، راشد الغنّوشي، على مواصلة لعبة المشي على الحبال، إذ أعلن مراراً وتكرارًاً أنّ حركته، التي لم تقدّم مرشحاً لها في الدور الأوّل، تقف على الحياد من كلا المرشّحين، مع مواصلة «غزله السياسي» لـ«الصديق الأستاذ الباجي» حتى يوافق على فكرة «حكومة الوحدة الوطنية» بين حزبيهما. كما أنّ من الواضح أنّ «نداء تونس» يرتكز أكثر من أيّ طرف آخر على ماكينة حزب التجمّع المنحلّ (حزب بن علي)، وخاصّة في الأرياف، وعلى اللوبيات المالية والإعلامية القريبة من هذا الحزب.
ومن أجل الظفر بالكتلة الانتخابية الحاسمة، التي ستقرّر مصير الدور الثاني، يعرف السبسي أنّه لا يمكنه التعويل على الدعم الذي قدّمته له بعض الأحزاب الصغيرة (الأحزاب «الدستورية» والليبرالية وأخرى محسوبة على وسط اليسار). كما يعلم المرزوقي أنّه لا يمكنه الاستفادة كثيراً من دعم أحزاب صغيرة أخرى تسانده («الإسلامية» أو من «الوسط»). لذلك توجّه كلاهما بالأساس إلى أنصار «الجبهة الشعبية» (تحالف أحزاب قومية ويسارية)، التي حلّ مرشّحها حمّة الهمامي ثالثًاً، بحوالى 8% من الأصوات في الدور الأوّل.
ويمكن القول إنّ ضغطاً شديداً مورس من أنصار كلا الطرفين على أنصار «الجبهة» وقيادتها. إلا أنّ الضغط الأكثر تأثيراً كان من «نداء تونس»، الذي ما انفكّت بعض قياداته، وخاصّة من اليساريين السابقين، يذكّرون «الجبهة»، في ما يشبه الابتزاز العاطفي أحياناً، بـ«دماء الشهيد شكري بلعيد» وبتحالفهما السابق قبل سنة في «جبهة الإنقاذ» إثر اغتيال القيادي الثاني من «الجبهة» محمد البراهمي. ويقوم هذا الضغط بالأساس على تعهّد السبسي بـ«كشف حقيقة الاغتيالات»، التي يشكّ جزء هامّ من أنصار الجبهة بتورّط بعض قيادات «النهضة» فيها، ويتهمون كذلك المرزوقي بـ«التستّر على الجريمة».
وبعدما ناورت قيادة «الجبهة» طوال الأسابيع الماضية، محاولة بالأساس الحصول على تعهّد من «نداء تونس» بعدم التحالف مع «النهضة» في الحكومة المقبلة، وخشية على وحدتها الداخليّة، عبّرت يوم الخميس الماضي عن موقفها النهائي. إذ دعت أنصارها إلى «عدم التصويت للمرزوقي، مع ترك حرّية الاختيار لقواعدها بالنسبة للتصويت لقائد السبسي». موقف أثار جدلاً كبيراً، لكنّه قد لا يكون كافياً لحسم نتائج انتخابات «كلّ المخاطر»، كما يراها الكثير من التونسيين.