في الجميزة، تكثر اللافتات التي تدل على الطابع التراثي للمكان. لا تزال المنطقة «صامدة» (قليلاً) في وجه التحولات الإسمنتية التي تشهدها المدينة. إلا أن الزحف الجارف للاستثمارات العقارية لن «يشفع» لها ولن «يوفّرها».بعد المباشرة بتشييد مشروع «قرية الجميزة» على أحد عقارات شارع «باستور» التراثي، يسعى بعض ملاكي الأبنية التراثية في الجميزة إلى استثمار عقاراتهم، حيث يجري العمل على تدمير بعض المباني، من ضمنها المبنى التراثي في منطقة المدوّر، الذي يعود تاريخ تشييده إلى العشرينيات من القرن الماضي.

يقسم العقار رقم 651 إلى قسمين: القسم الغربي، وهو مصنّف غير تراثي، وبالتالي يُسمح بهدمه، والقسم الشرقي المصنّف تراثياً، وهو القسم الذي أصدرت وزارة الثقافة قراراً بعدم الموافقة على هدمه (4/11/2013).
بتاريخ 20/12/2013 تقدم مالك العقار (محمد رشاد عطوي) بطعن لدى مجلس شورى الدولة لإبطال القرار الصادر عن وزارة الثقافة، وبعد مرور سنة تقريباً، أصدر المجلس قراره في 4/12/2014 بقبول الطعن، واعتبر أن قرار منع المستدعي (المالك) من هدم البناء الكائن على عقاره في غير محله ومستوجب الإبطال.
يرتكز القرار على «الحرص على الملكية»، فيشير إلى «أن الدستور حرص على منع نزع الملكية» وأنه «انطلاقاً من تعريف حق الملكية الوارد في بعض النصوص القانونية (ارتكز على المادة 11 و12 و13 من قانون الملكية العقارية، فضلاً عن المادة 15 من الدستور) فإن منع المالك من هدم ما يكون على عقاره من بناء، يحد من حقه في ملكه ما لم يكن مستنداً إلى نص تشريعي يجيزه (المنع)». كذلك يرتكز على مسألة أن العقار كان قد حُرِّر من لائحة الأبنية المجمد هدمها بموجب قرار سابق لمجلس الوزراء. يقول الناشط البيئي رجا نجيم إنه «لو كان العقار مصنفاً ضمن اللائحة المذكورة، لما كانت هناك حاجة إلى الكشف عليه وتصنيفه من قبل وزارة الثقافة بغية حمايته».
ما هي لائحة المباني المجمد هدمها؟
في 5/2/1998، كلّف مجلس الوزراء مجلس الإنماء والإعمار إعداد دراسة شاملة تتناول الأبنية المجمّد هدمها وتحرير الأبنية التي لا تتسم بطابع تراثي، عندها صُنِّفت المباني وفق مجموعات، A وB وC ، وهي المجموعات التي تضم أبنية ذات طابع أثري، أما D وE فاعتبرتها الدراسة أنها لا تتسم بالطابع التراثي ومحررة.
يؤكد نجيم أن «هناك الكثير من المباني التي صنفت ضمن المجموعات المحررة تعتبر تراثية»، مضيفاً أن «هذا المبنى بالذات يتمتع بمزايا تفرض تصنيفه ضمن المجموعة غير المحررة». ويلفت إلى الكثير من الإشكالات القانونية التي تشوب ملف إعادة التصنيف. يقول نجيم: «على مر السنوات السابقة، كان مجلس الوزراء يتعمّد تجاهل هذا الملف»، فيما تلفت وزارة الثقافة إلى أن هذه اللائحة لم تشمل كافة المناطق في بيروت، مؤكدة عدم دقتها، مشيرة إلى أن «غياب قرار الدولة عبر حكوماتها العديدة المتعاقبة وارتفاع أسعار العقارات في بيروت أديا إلى تفاقم هذه المشكلة وبلوغها الحد الخطير الذي وصلت إليه اليوم». وتضيف: «إن وزارة الثقافة تفتقر إلى النصوص القانونية التي تسمح لها بالمحافظة على التراث المعماري وعلى الملكية الفردية في آن واحد».
القرار اعتبر أن
منع المالك من هدم البناء يحدّ من حقه
في ملكه


هنا تكمن الإشكالية التي يطرحها قرار مجلس شورى الدولة: فكيف للقضاء أن يبدو متمسكاً وملتزماً بالنصوص التشريعية بمعزل عن مسؤوليته في حماية المصلحة العامّة التي تسمو على المصلحة الفردية وحق الملكية الخاصة؟ ما خلص اليه قرار مجلس الشورى يضرب أساس العدل الذي يقوم عليه القضاء، فعوضاً من أن يوفّر القضاء الحماية للمبنى التراثي، بصفته يتصل بالذاكرة الجماعية (أي بمثابة ملك عام)، اندفع بشكل مريب لحماية الملكية الخاصة واعتبارها أعلى ما عداها من حقوق.
ماذا عن الأبنية السكنية التراثية الأخرى في بيروت؟ في منطقة الرميل في الجميزة مثلاً، «البناية الصبية عمرها 120 سنة»، وفق ما يقول مختار المنطقة بشارة غلام، هل جميعها مصنف ضمن اللائحة؟ ومن يضمن أن لا يلجأ مالكوها إلى المجلس ليشرّع لهم الهدم؟ لا يخفي غلام قلقه على تلك الأبنية «التاريخية» التي يفاخر بها، يقول: «توجد أبنية كانت تستقبل ملوك ورؤساء جاؤوا ليتصورا أمامها». لا يصدق المختار أن هذه الأبنية يمكن السماح بهدمها، فهي بالنسبة إليه «آثار وتاريخ». ربما كان على المختار أن يعيد النظر في قناعاته بأن للتاريخ والآثار مكانة محفوظة، فليس ما ورد في ختام نص قرار مجلس الشورى إلا دليل على الخطر المحدق بهذه الأبنية، إذ يشرّع هدم المبنى «بغض النظر عن مواصفات وأهمية البناء موضوع البحث»، وكأن هذه النقطة المحورية لا تعنيه أبداً.
تجدر الإشارة إلى أن العقارات التي تقع ضمن أحياء ذات طابع تراثي تخضع لقانون البيئة 444، ويتمتع العقار المذكور بحساسية خاصة تفرض على وزارة البيئة إجراء فحص بيئي مبدئي قبل اتخاذ أي إجراء لا عودة عنه. «وبالتالي لا يحق للمحافظ أن يعطي الموافقة بالهدم قبل إحالة الملف إلى وزارة البيئة، حتى لو كان هناك قرار من مجلس شورى الدولة»، وفق ما يقول نجيم، لافتاً إلى أن ثمة مسؤولية ملقاة على عاتق محافظ بلدية بيروت زياد شبيب، علماً بأن الأخير كان قد أصدر قراراً في 12/12/2014 يقضي بتوقيف الأعمال الجارية في القسم الشرقي من رقم العقار رقم 651 المدور والإيعاز إلى من يلزم بتوقيف كافة الأعمال الجارية من دون ترخيص في القسم الشرقي من العقار، مع التشدد في المراقبة، يقول نجيم: «إلا أنه حتى الإجازة بهدم القسم الغربي تستلزم الفحص من قبل وزارة البيئة»، لافتاً إلى المسؤولية المترتبة على عاتق وزارة الثقافة التي كان بإمكانها أن تطلب إعادة المحاكمة، إلا أن الأخيرة لم تقم بهذه الخطوة.