منذ إحكامه قبضته على قيادة القوات اللبنانية، أبعد سمير جعجع، لأسباب مختلفة، من كانوا يشاركون القائد في التفكير السياسي والاقتصادي والأمني والعسكري، وحطم كل الأيقونات باستثناء شارل مالك. حافظ جعجع على الهالة المحيطة بمالك، وازداد في ظل غياب الأخير إلحاح السؤال عمن سيخلف هذا المفكر في وعي جعجع ولاوعيه. اعتقد كثيرون ممن تغشّهم المظاهر أن نائب بشري إيلي كيروز هو المفكر المنتظر، إلى أن أطل العميد المتقاعد وهبي قاطيشا. «خليفة مالك» – بالنسبة إلى جعجع – يثبت في إطلالاته المختلفة أنه «موسوعة» عسكرية وأمنية واقتصادية وسياسية. ومن يتابعه يكتشف العجائب. قبل بضعة أيام، شرح قاطيشا للرأي العام أن المفاوضات بين الحكومة اللبنانية و»جبهة النصرة» لإطلاق سراح من تبقى من العسكريين اللبنانيين ليست مقايضة، حتى لو شملت إطلاق مئات الموقوفين في السجون السورية.
فـ»المقايضات لا تجري إلا بين منظمتين إرهابيتين». وليس الهدف من هذا الدرس المشوّق سوى إعلام من يهمه الأمر بأن «حزب الله والمجموعة المسلحة التي قايضت الحزب هما منظمتان إرهابيتان».
وأشار قاطيشا في الحديث نفسه إلى أن العسكريين موجودون لدى «النصرة» و»داعش» في القلمون، «وفي تقديري هؤلاء مرتبطون بالنظام السوري». فوفقاً لخبرته العسكرية ومعلوماته الأمنية واتصالاته: «كيف سيحصل هؤلاء على التموين في تلك الجبال المكللة بالثلوج، لو لم يكونوا مرتبطين بالنظام السوري؟»، مع العلم بأن الرجل نفسه يسهب في الحديث عن خسائر حزب الله اليومية جراء مواجهته هذين التنظيمين.
ليس مهماً إقناع المستمعين بأن «قبول الجيش الهبة الإيرانية ليس خطوة جيدة» كما يقول قاطيشا. الأهم بالنسبة إلى المستشار هو إقناع جعجع. وها هو يضيف الى موقفه السياسي معلومات عسكرية قيّمة لإقناع المشككين: «من الناحية العسكرية، السلاح الإيراني لم يثبت فعاليته في أيّ دولة»، بما في ذلك لبنان وفلسطين، بعكس «النقيفة» السعودية. أما اقتراح العماد ميشال عون بأن يذهب وجعجع إلى المجلس النيابي، لانتخاب أحدهما حصراً رئيساً للجمهورية، فهو «اقتراح إلغائي»! وكان سبق لقاطيشا أن أفتى، بناءً على المادة 73 من الدستور، بوجوب انتخاب رئيس للجمهورية بالأغلبية المطلقة بعد مرور شهرين على موعد انتخاب الرئيس، معتبراً، كـ»خبير» دستوري هذه المرة أن النصاب يكون قانونياً بمن حضر. ولا يسلم «قديس 14 آذار» الجديد، الرئيس ميشال سليمان، من سهام قاطيشا حين يعلن الأخير أن جعجع قدم برنامجاً انتخابياً بعكس من اعتادوا التسلل من الظلمة إلى موقع الرئاسة، بعد أن تتفق الأسرة الدولية فيأتي الرئيس أعرج. في 5 تشرين الأول، ينقل موقع النشرة الإلكتروني عن قاطيشا قوله لإحدى الإذاعات إن «قرار القوات نهائي لجهة التصويت ضد التمديد لمجلس النواب». وبعد أقل من عشرين يوماً ينقل الموقع نفسه عنه قوله: «القوات اللبنانية مع التمديد وستغطيه في أي جلسة مرتقبة للتصويت عليه، يكفي كذباً على الناس لتحقيق شعبوية معينة».
انتقل قاطيشا من الجيش الى صفوف القوات قبل 1989

بعدما طلبت السعودية من مجلس الأمن إدراج حزب الله ضمن التنظيمات والجماعات الإرهابية، لم تجد الصحافة السعودية لبنانياً يرحّب بفرض عقوبات على الحزب الممثل في مجلسي النواب والوزراء سوى النائب معين المرعبي و(...) قاطيشا. أكد الأخير لإحدى الصحف أن الوقائع المحلية والدولية تثبت أن حزب الله تنظيم إرهابي، ولا بدّ من فرض عقوبات إضافية عليه. وفي حوار آخر مع صحيفة «عكاظ»، طمأن قاطيشا مموّلي الصحيفة الى أن ما تعدّ له الولايات المتحدة وفرنسا لتجفيف مصادر حزب الله المالية عبارة عن تراكمات ستؤدي إلى نتيجة رغم وتيرتها البطيئة. وبوصفه خبيراً عن قرب بأوضاع حزب الله، بشّر قاطيشا الصحيفة بأن «الحزب محاصر ومصادره المالية بدأت تجف وقنوات تمويله غدت محدودة جداً». وهو توقع قبل أكثر من عام أن تكون «عودة الحزب من سوريا قريبة، لقلة التمويل وعجزه العسكري. وسيعلن حزب الله في وقت قريب أن النظام السوري لم يعد في حاجة إليه عسكرياً».
أما الأخطر من هذا كله، فهو انتقال قاطيشا من المحاضرة في الشؤون العسكرية والسياسية المحلية إلى الملفات الدولية. ففي مقال بعنوان «شيخوخة الإمبراطورية الفارسية وبداية الأفول» يكتب قاطيشا أن «التوسّع الإمبراطوري لإيران فشل لاعتماده على العنف كوسيلة سريعة لتصدير الثورة (إلى لبنان وسوريا والعراق والبحرين)». ولا شك في أن قاطيشا همس يومها في أذن جعجع بأن «الانكسار الفارسي» يوازيه انتصار سعودي، سواء في لبنان وسوريا والعراق أو في اليمن وسلطنة عمان والكويت والبحرين، في وقت وجّه فيه قاطيشا أخيراً رسالة غير مباشرة للإدارة الروسية ينصحها فيها بتغيير لغتها الأم، لأن «اللغة الروسية هي العنصر الأصعب في تطوير روسيا».
يذكر أن المستشار العليم سبق له الانتقال من جهة الجيش إلى جهة ميليشيا القوات اللبنانية قبيل أيام من بدء المعركة عام 1989 بين الجيش والقوات، لخشيته من اتخاذ قيادة الجيش تدابير احترازية ضد الضباط المشكوك في ولائهم والمتعاملين مع الميليشيات المختلفة، قبل أن توافق قيادة الجيش على عودته مجدداً، في ظل التزامه الكامل بشروط الخدمة العسكرية في التسعينيات، من دون تسجيل أي مأخذ عليه ضد من يصفه اليوم بجيش «الاحتلال السوري».