خلال القرن العشرين، وحتى الآن، سادت الساحة السياسية العربية أربعة تيارات: الليبرالي، والعروبي بفرعيه الناصري والبعثي، والاسلامي، والماركسي. وصلت التيارات الثلاثة، ماعدا الماركسي، إلى السلطة وحكمت بلدان وفشلت.
نشأت الماركسية، بطبعتها الشيوعية، على وقع نشوء الاتحاد السوفياتي، ولو أنّ أحزاب شيوعية عربية ضربت جذوراً عميقة في بلدانها، مثل أحزاب السودان والعراق وسورية، ولو أن الحزب الشيوعي السوداني قد دفع ضريبة مخالفته لموسكو في الموقف من النميري بين عامي 1969 - 1971 وتحطم بسبب ذلك لما حاول الخروج من المأزق عبر انقلاب 19-22 تموز 1971، فيما دفع الشيوعيون السوريون والعراقيون ضريبة التبعية للسوفيات ما أدى إلى انشقاقات وسياسات أفقدتهم قوتهم من خلال التحالف مع الأنظمة القائمة عبر جبهتي 7 آذار 1972 في سورية وجبهة 17 تموز 1973 في العراق.

عندما جرت، بعد هزيمة حزيران 1967، محاولات لانشاء تعبيرات ماركسية على غير الطبعة السوفياتية من خلال نازحين من التنظيمات العروبية إلى الماركسية لم تستطع تلك التعبيرات أن تكون منافساً فكرياً للأحزاب الشيوعية العربية، والكثير منها مثل الحزب الاشتراكي اليمني والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين وحزب العمل الشيوعي في سورية، انزاح لاحقاً نحو التفكير الماركسي السوفياتي. كان وقع سقوط الكرملين بين عامي 1989 و1991 كبيراً وقوياً على كثير من الأحزاب الشيوعية العربية، وحتى على أحزاب شيوعية خالفت موسكو مثل الحزب الشيوعي السوداني والحزب الشيوعي السوري- المكتب السياسي، ولم يكن الأثر أقل على كثير من التنظيمات الماركسية العربية الأخرى. تخلى البعض عن الاسم، مثل الحزبين الشيوعيين في تونس وفلسطين، واضمحلت تنظيمات مثل منظمة العمل الشيوعي في لبنان، وانزاح الكثير من الشيوعيين والماركسيين زرافاتاً ووحداناً عن الماركسية ونزحوا وذهبوا بغالبيتهم العظمى إلى «الليبرالية الجديدة» التي أخذت ملمحاً مختلفاً عن ليبرالية مفكرين مثل لطفي السيد وأحزاب مثل «الوفد» المصري و«الكتلة الوطنية» في سورية، وليكونوا صدى لمشروع «المحافظون الجدد» الذين سيطروا على إدارة بوش الابن، ومعظمهم من التروتسكيين المتحولين من الماركسية إلى الليبرالية مثل بول فولفوفيتز، نائب وزير الدفاع الأميركي، وريتشارد بيرل، رئيس مجلس تخطيط السياسات الدفاعية في البنتاغون، الذين أرادوا عبر إعادة صياغة الشرق الأوسط من خلال «مشروع الشرق الأوسط الجديد»، مع وبعد غزو العراق، «إزاحة الديكتاتوريات القائمة ونشر الديموقراطية ونموذج اقتصاد السوق».
لم يستطع «الليبراليون
الجدد» في الدول العربية
تشكيل حاضنة شعبية
لم ينجح هذا المشروع الأميركي وقد غرق معه وفيه كل أولئك المتحولين من الماركسية نحو تلك الليبرالية الجديدة، ثم غرق الاسلاميون الاخوانيون بعد أن أصعدهم «أسانسور» باراك أوباما إلى السلطة في بحر عامي 2011-2012، لما تخلت واشنطن عنهم في بحر عامي 2013-2014. وقد غرق معهم بقايا الليبراليون الجدد، وبخاصة في سورية لما أخذوا وضعية التابع للاسلاميين في «المجلس» و«الائتلاف»، فيما كان الليبراليون الجدد في مصر وتونس أتباع لأنظمة مثل تلك التي كانت لمبارك وبن علي، والآن يجدون أنفسهم وراء السيسي والقائد السبسي.
الآن، في نهاية عام 2014، وعبر أحد عشر عاماً وثمانية أشهر منذ سقوط بغداد بيد الأميركي، هناك فشل كبير لتيارين ارتبطا بواشنطن بالفترة المذكورة: «الليبراليون الجدد» و«الاخوان المسلمون». قبل هذا هناك فشل للتيار العروبي بطبعتيه الناصرية والبعثية، وقبله فشل لليبراليين القدماء وأحزابهم من أمثال «الوفد» و«الكتلة الوطنية» و«حزب الشعب» السوري. لم يستطع «الليبراليون الجدد» تشكيل حاضنة شعبية بل كان اعتمادهم، في منحاهم الإيديولوجي اليميني مثل الذي كان لما كانوا يساريين، أي أن يعتمدوا على قوة عظمى للزرع المحلي من خلال استبدال موسكو بواشنطن. هناك انفضاض شعبي عن الناصريين والبعثيين. والآن في مصر وسورية وبعد أن صعد «الاسلام السياسي» فيهما منذ السبعينيات كموجة، (وهما – أي القاهرة ودمشق - بوصلة الفكر السياسي العربي منذ عام 1919)، هناك انفضاض اجتماعي كبير عند الطائفة السنية، إن أسميناها مجازاً طائفة، عن تيار «الاسلام السياسي» بطبعاته الاخوانية والسلفية الجهادية بل هناك أكثر من ذلك حيث توجد عودة إلى مظاهر التحرر السلوكي والاجتماعي والثقافي بكل ما يمكن أن تفرزه هذه من ترجمات إيديولوجية فكرية - سياسية. يساهم في هذا فشل «الاخوان» في الحكم في القاهرة وتونس، وفشل مشاركتهم في السلطة بصنعاء وطرابلس الغرب، وفشل قيادتهم للمعارضة السورية عبر تجربتي «المجلس» و«الائتلاف». كما يساهم في هذا ما أظهره الاسلاميون، بطبعاتهم المختلفة، في مناطق سيطرتهم كمليشيات في حلب وريف ادلب وديرالزور والرقة وبنغازي وطرابلس الغرب حيث كانوا غاية في الفساد والديكتاتورية، ودخلوا في صدام مع العادات وأنماط الحياة التي اعتاد عليها الناس ومنها التي للمتدين وللمتدينات على طراز الاسلام الشعبي وهم غالبية اجتماعية في الدول العربية.
الآن، يعيش العرب فراغاً إيديولوجياً فكرياً - سياسياً، حيث توجد تيارات سياسية تتساوى في الفشل خلال مسار يقارب المئة عام. بالتأكيد الماركسيون حتى لو لم يجربوا السلطة باستثناء تلك التجربة اليتيمة والفاشلة أيضاً لليمن الجنوبي، إلا أنهم يشاركون الآخرين في الفشل، سواء في تبعيتهم للسوفيات ثم للأنظمة ذات العلاقات الجيدة مع موسكو وبعد هذا هم يعتبرون فاشلين مع سقوط نموذجهم في الكرملين.
هنا، هناك بوادر على اتجاهات اجتماعية عامة في حالة الفراغ هذه: ابتعاد من العروبة لصالح الكيان القطري، البحث عن لاصق وطني عابر للطوائف والأديان والقوميات، ابتعاد من «الاسلام السياسي» ومن التدين ولو أن الابتعاد من الأخير أقل من الأول، اتجاه نحو علمانية «ما» تفصل الدولة عن الدين، بداية التحسس والاحساس الاجتماعي بثقل الفوارق الطبقية بين الأغنياء والفقراء، عداء للغرب وبداية التحسس لمعنى عبارة «الهيمنة الامبريالية الغربية» ولو أن هناك اعجاب وتمثل بنمط الحياة الأميركية حتى عند الذين يشعرون بعداء لواشنطن بالمعنى السياسي، ولو أنها لا تصل عندهم للعداء الإيديولوجي الفكري - السياسي للرأسمالية أو لمنحى يساري اشتراكي ماركسي.
أليست هذه بوادر على قرب انتعاش لليسار عند العرب؟
* كاتب سوري