في رأس الكاتب، تنقسم الحكايات عن التكنولوجيات الجديدة إلى نوعين أساسيّين: الأولى تُحاك لتصنع الدهشة ولتخلق عند القارئ شعوراً، ولو موقّتاً، بالعجز أمام التسارع الحاصل، والثانية تُنسج كي تعطي القارئ حلّاً لمشكلة يعاني منها، وتدفعه كي يذهب مباشرة الى تجربة هذه التكنولوجيا. وفي رأس القارئ، تصبح الحكايات باهتة عندما توضع الثانية في قالب الأولى، وكأنّ عليه أن يفتح فاهه متعجّباً لمجرد سماعه بأيّة تقنية عادية.

والحقّ يُقال: مع الوقت تقلّصت الفجوة بين ذلك القارئ المتفتّح والكاتب، وبات الإدهاش صعباً، فكلّ شيء بات متوقّعاً أمام رؤية روبوت يهبط على المرّيخ أو حاسوب يحادث البشر فلا يستطيعون التفريق بينه وبين أناس من لحم ودم.
لكنّ فجوة أخرى لم تُردم بعد، وهي أنّ لهفة الناس على تجربة كل جديد تتوقّف عندما يأتي الأمر إلى عملهم. ببساطة، هناك استعداد عند الغالبية لأن يكتبوا لساعات ما يعادل صفحات من المحادثات على "واتساب"، ولكن لن تجد إلا القليل ممّن يستخدم شبيهاً للبرنامج نفسه في مجال العمل. لماذا؟ لأنّ استخدام الـ "واتساب" بين شخصين بحاجة الى قرار بسيط ونقرتين على شاشتين. أمّا الشركات، فهي عصيّة على التغيير. يتطلّب القرار فيها أشهراً، ومن ثمّ يتطلّب تغيير عادات العمل أشهراً أخرى.

عصر التواصل في العمل

الخبر السعيد أنّنا في عام ٢٠١٤، بدأنا نعيش العصر الذهبي لتقنيات التواصل في العمل، والتي بدأت تتغلغل على نطاق واسع، حتى أنّ "فايسبوك"، عملاق التواصل خارج العمل، يبدو أنّه سيطلق شبكته الخاصّة بالتواصل المهني بين الموظّفين أثناء عملهم، بهدف زيادة انتاجيتهم، مستغلّاً ألفة الناس مع شبكته الحالية. وعليه، بات الأمر أوضح: إمّا أن تلحق الشركات بهذا الرّكب، أو تبقى في عصرٍ، جُلّ ما فيه أنّ الموظفيّن يتراسلون بالبريد الإلكتروني، ويدوّنون الملاحظات على لوح كبير.

قد لا تظهر الحاجة جليةً في البداية لوسائل بديلة. فالكثيرون سعداء بالحالة الراهنة للأمور. لكن في مفاصل أساسية يظهر الخلل. فأيّ وافد جديد إلى الشركة سيكون بريده الإلكتروني خالياً، ولوحه في مكتبه كذلك. فقد بقيت المعرفة في رؤوس من سبقه من العاملين، الذين يأتون ويرحلون من دون أن تنتقل المعرفة التي أنتجوها إلى من يخلفهم. خلل آخر يحدث عندما تنقلب الشركة والمؤسسة إلى جُزر، لا يدري فيها قسمٌ ما يجري في غيره، فيتضاءل التعاون المطلوب بينها. وهذا ما يتفاقم في الشركات التي أغلب موظّفيها هم من يُعرفون بـ "عمّال المعرفة". وهو ما يجمع العاملين في الجريدة، والباحثين في الجامعة، والمصمّمين، والمعماريّين، والمهندسين في شركات النفط، والعاملين في مجال التسويق، والمبرمجين: كلّ شخص منهم "عامل معرفة". عمله يتضمّن التفكير الإبداعي، ولا يتكرّر محتواه يوميّاً، فكلّ مقال أو تصميم أو دراسة أو إعلان هو حالة خاصّة تستدعي تقييماً متجدّداً. وبالتالي، تلزمُ أرشفة هذا التفكير كي يبقى قيمة للمؤسّسة.

الوصفة التكنولوجية

يُقدّر عدد "عمّال المعرفة" في العالم بأكثر من مئتي مليون شخص يهدر كلّ منهم بمعدّل ٣٠ دقيقة يوميّاً بحثاً عن الملفّات


في ما يلي، وصفة سريعة ومجرّبة لكيفية إدخال التكنولوجيا مثل هذه المؤسّسات، وهي بكلفة صفر، كي لا يبقى هناك حاجز مادّي أيضاً أمام هذه التقنيات، وهي تقلّص الخيارات إلى الحدّ الأدنى، كي لا يضيع صانع القرار في بحر من التقنيات. السيناريو المفترض هو أنّ عمّال المعرفة يحتاجون إلى خمس وسائل أساسية: جمع المعلومات، التعاون على الكتابة، تنظيم الملفّات، توزيع المهمات، والتواصل السريع. وقد روعي فيها أنّنا في عصر الهاتف الذكي، وكذلك في عصر السّحابة: حيث العمل من أيّ مكان وليس فقط من المكتب. ففي هذه الوصفة، لا حاجة لنقل الحاسوب أو الأقراص الصلبة في محفظة الموظّف، بل كل شيء متوافّر من هاتفه أو لوحه الذكيّ.

١ـ جمع المعلومات من الملفّات وعن الإنترنت:

الحلّ لذلك هو أن يبدأ الموظّفون باستخدام برنامج Evernote. ومن بعدها يُنشئون مجلّداً خاصّاً بالشركة يجمعون فيه المعلومات بحسب موضوعها. الوسيلة سهلة للغاية: ففي كلّ متصفّح إنترنت، يمكن تحميل هذا البرنامج على شكل "Extension". وبعد ذلك، إن قرأ أحد مقالاً فيه معلومة مهمّة، ينقر على أيقونة Evernote، فيتمّ حفظ المقال. أهمّية البرنامج أنّه يوفّر خاصّية بحث دقيقة، لا تقتصر على النصوص بل حتى على الكتابات الواردة في الصور.

٢ ـ التعاون في كتابة المحتوى الجديد:

وهنا يُنصح ببرنامجين: أوّلهما Google Docs والثاني Quip. كلاهما يوفّر وسيلة كي يتعاون الأشخاص لكتابة نصّ معيّن، كتوصيف منتج للشركة على سبيل المثال، أو ليُنقّح شخص نصّ الآخر من دون حاجة لإرسال الملفّات بالبريد الإلكتروني. وأهمّيتهما أنّ كلّ شيء محفوظ تلقائياً على السحابة، أي لا ضرورة لحفظ يدوي بين الفينة والأخرى. والبداية فيهما سهلة: يُنشئ الموظّف مجلّداً، ويدعو إليه زملاءه كي يبدأوا في صناعة المحتوى الجديد. يفترق البرنامجان أساساً في أنّ Quip يُوفّر تجربة أفضل على الهاتف الذكي، وأنّه يُنبئك عندما يقرأ المتلقي ما أرسلته إليه، وفي أنّ Google Docs يدعم العربية بشكل أفضل حتى الآن.

٣ ــ تنظيم الملفات في أرشيف مشترك:

في معظم الشركات، تتناثر الملفّات بين حواسيب الموظّفين بطريقة غير منظّمة. وبالتالي يمكن حلّ ذلك، باستخدام خدمة Google Drive، وإنشاء مجلّد يضع فيه الأشخاص ما يريدون من ملفّات وصور وتصاميم، وينظّمونه سويّاً كي يصبح العمل فيه سهلاً. أهمّيته أنّه ينخر عُباب المحتوى وليس فقط العناوين. فيُخرج ما تريده عند البحث، ولو كان في أي ملفّ قديم. وفيه خاصّية Activity Stream، التي تُطلعك على آخر التغييرات التي قام بها زملاؤك.

٤ـــ تنظيم المهمات:

في كثير من الأحيان، ينسى الموظّفون ما هو مطلوب منهم، ولا يُمكنهم الاطّلاع على تقدّم مشروع ما وعلى ما أُنجز سابقاً. ولذلك وُجد برنامج مثل Asana، الذي تُوزَّع فيه كلّ مهمّة على شخص، وتيعطى وقتاً لإتمامها. ويوفّر كذلك إمكان التعليق تحتها، لإجراء محادثات عنها.

٥ــــ التواصل بين العاملين:

وهنا يأتي برنامج قُيّمت شركته النّاشئة بأكثر من مليار دولار في عام ٢٠١٤، وهو Slack، الذي بدأ يبدّل طريقة عمل الشركات في العالم. البداية فيه تكون بإنشاء حساب (مجّاني) للمؤسّسة المعنيّة على الموقع، يُدعى إليه الموظّفون، فيلجون إلى صفحة محادثة سهلة ومباشرة. تُقسم الصفحة إلى قنوات عدّة، كلّ منها لقسم من الشركة. ففي صحيفة ما، يُمكن إنشاء قناة لقسم المحليّات، وقناة للتداول في أمور الاجتماعات، وقناة للتسويق، وقناة عامّة للمحادثات المشتركة. يُمكن للموظّفين التراسل في أمور العمل كأي برنامج محادثة، وهو يستبدل الكثير من رسائل البريد الإلكتروني الجافّة بمحادثات ديناميكية ذات طابع إنساني. أهمّية Slack أنّه يربط كلّ الوسائل السابقة في مكان واحد، فيمكن إنشاء قناة لتوزيع المهمات، تظهر فيها المهات الجديدة من Asana، وفي كلّ مرّة يُوضع فيها رابط لملفّ على Google Drive أو Google Docs، يظهر الملف داخل القناة. وكلّ هذه المحادثات العامّة يُمكن البحث فيها بسهولة لأي وافد جديد.

ماذا بعد؟

الخطوة المقبلة في هذا المجال، هي أن تبدأ الشركات بالاستفادة من تحليل كلّ هذه المعلومات بشكل تلقائي، كي يخرج الحاسوب بخلاصات مثل: اليوم كان نقاش "الوضع السوري" هو الأنشط بين موظّفي الصحيفة، وأنّ آراءهم متباينة حول ذلك، أو أنّ الشركة بحاجة إلى أشخاص على دراية أكثر بالشأن القضائي، أو بتقنيّة النانو. وهذا ما ليس بعيداً، فمساعدك الشخصي الذكي قادم بقوّة إلى المؤسّسات، وهو على الأغلب سيكون على شاكلة برنامج "Siri" (وعين الله ترعاه).