بين جنازتين

طرح السؤال نفسه بقوة ما أن توالى المشهدان على الشاشات في بث مباشر: لم غاب الناس عن جنازة سعيد عقل في حين فاضت أعدادهم في جنازة صباح؟
البعض تسرع بالقول أن السبب هو كون الناس لا يحفظون الشعر كما يحفظون الاغاني. لكن، ومع ان هذا القول صحيح، فان الموضوع ليس هنا.

ما زلت أذكر يوم أحيا محمود درويش أمسية في الأونيسكو في بيروت منذ بضع سنين. حضرت يومها قبل الوقت لاني توقعت حشدا كبيرا. لكن الحشد الذي رأيته كان خرافيا بالنسبة للمناسبة: فقد ازدحم الناس على باب الأونيسكو لدرجة ان اولئك الذين حوصروا امام الباب الزجاجي للقاعة، التصقت وجوههم بالزجاج تحت ضغط الحشد خلفهم، وكاد أبو علي انطون حرب رحمه الله، يستدعي الشرطة! كان معي يومها فرنسيان يتقنان العربية من جيل الخمسينات .. أذكر كيف وقفا مذهولين وهتف أحدهما: كل هذا من أجل الشعر؟ حتى في باريس لن يحدث هذا!
اذا، يبدو السبب الاول المفترض، بعيدا عن التصديق. صحيح إن قصائد درويش في الحالة الفلسطينية روّجها الوضع الفلسطيني وتحوّل الرجل إلى رمز، وبرأيي، لو لم يكن الأمر كذلك، لما حفظت قصائد محمود بقدر قصائد أخرى أقرب الى الذائقة الشعبية.
لكن، اظن ان المقارنة بين صورة سعيد عقل العامة مع صورة صباح، قد تفيدنا أكثر. فما يتبقى من شخص بعد وفاته، خاصة ان كان شخصية عامة، هو صورته المتشكلة في المخيلة والذاكرة الشعبية. هذه الصورة هي التي تدفع بالناس الى اعتبار الجنازة تخصهم، فيشاركون فيها، او لا تفعل، فيبقون في منازلهم. اذا، ما يدفع الناس الى بذل جهد المشاركة، هو تحديدا تلك الصورة. فما هو الموجود في صورة صباح العامة، وهي الفنانة الهامشية، وليس موجودا في صورة سعيد عقل؟عقل، الذي وللمناسبة، لم يتذمر آحد من امتداد حياته لمائة سنة ونيف، في حين كانوا يستكثرون على الشحرورة عيشها آقل منه بعشرين عاماً.
في البداية هناك ذلك القرب من صباح. فهي، وبرغم شهرتها التي طبقت الآفاق، لم تتوان عن الغناء تقريبا لكل مواطن: من موظفي السنترال الى المغرومين الى باعة البطاطا.. وهي، التي انطلقت فعليا من مصر، لم تحتج للاستبلشمنت اللبناني، (ٌاقرا مارونية سياسية) الذي، شكل في وقت ما، الرافعة السياسية لصورة سعيد عقل في الوعي “اللبناني”.
الجنازة نفسها، مع انها اتجهت الى المكان ذاته، اي زحلة ومنطقتها، واحتفى بها هناك الاشخاص الرسميون نفسهم الذين احتفلوا بجنازة صباح، كانت شديدة الدلالة. انتظام يكاد يكون كشفيا في تشييع الشاعر، مقابل حضور "فوضوي" يكاد يكون بهيجا لجنازة صباح، معززا بوصية الراحلة ان ادبكوا وافرحوا وانشدوا اغانيي في جنازتي. هكذا راينا محجبات و"محجبين" في تشييعها، وسمعنا الزغاريد ملعلعة من بيروت الى وادي شحرور.
ضاع الحضور الرسمي في جنازة صباح بين الناس، في حين تراصف الرسميون في جنازة عقل بانتظام يحار بين العسكر والكشافة، وتوسطهم، تابوت رهيب يشبه كومة من المفاهيم تراكمت كيفما اتفق فوق جثة الراحل، في نية "تلخيص" اسباب تمجيد الاستبلشمنت الماروني له. التابوت "إقترفه" نحات بشراوي، سبق ان اقترف منحوتات من النوع "اللبنانوي" محولا بعض اشجار الارز في منطقته الى نوع شيء اشبه بالموبيليا التعبيرية. هكذا، بدت صباح في ذاكرة الناس: إمرأة جميلة، تتفجر انوثة، حلوة الروح، عظيمة الموهبة متواضعتها، يكاد يحصل لها ما يحصل لنا نحن الناس العاديين من خيبة بالرجال او معاناة من اب عنيف الى خيبات بالغرام .. الى مشاكل الاولاد الخ..
اما عقل؟ فصورته العامة اقرب الى كاريكاتير عن نفسه. فهو، من يتحدث، حتى بالسياسة، بلهجة من يلقي قصيدة. اما مفاهيمه "الفلسفية" السياسية فكانت أشبه بقصيدة سيئة، الفّها وراح يلقيها على مسامعنا مسرحياً. لم نكن نغفر له، نحن الذين استبعدنا بتصنيفاته السياسية، الا حين كنا نسمع شعره الاسنثنائي.
ولان الناس لا يحفظون الشعر كما يحفظون الأغاني، خاصة ان كان جزء منه قد سّوق كمنتوج سياسي/ثقافي، يخص جماعة لبنانية محددة دون اخرى. لذا مشى الجميع خلف الصبوحة ولم يمشوا خلف من فرقهم بتصنيفاته.
نعم، استغرقتني الإجابة على السؤال اياماً. لكن الوالدة، لم يستغرقها الجواب الرد الا هنيهة. قلت لها: ماما؟ شو قولك؟ ليه كل الناس راحت على جنازة صباح وما حدا راح ورا سعيد عقل؟ فأجابت بكل بساطة وهي تتنهد: التعصب يا ماما. التعصب.

التعليقات
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 12/7/2014 4:29:10 AM

فنانة هامشية؟؟؟

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

فيصل باشا/برلين فيصل باشا/برلين - 12/5/2014 11:46:24 AM

اقتباس من اسعد ابوخليل : سألوه لسعيد عقل عن رأيه في شعر المتنبّي, قال: "بعض الأبيات". سألوه في رأيه في شعر محمود درويش, كان يقول إما "لم أسمع به" أو "بعض الأبيات". بجدّ. برآي الشحرورة دخلت وجدان الناس وقلوبهم من باب الاغنية وذاكرتهم التي لا تمحى، وهي لم تكن يوما الا انسانة لم تؤذي احداً، وكانت تحب ان تعيش، فبداخلها كانت تسكن طفلة بريئة تحب اللهو والفرح والحياة، فعام يقبل وعام يمضى، وتبقى صباح نجمة مشعة في سماء الوطن العربي، فالنجومية لا يمكن انتزاعها، فقد كانت صباح وسوف تبقى صباح، ولكم اعرف اناس اطلقوا اسمها على اولادهم، واسم زوجتي مثلا دلع، مقتبس من اغنية يا دلع ادلع، فمقارنة بسعيد عقل كان له اراء ومواقف سياسية لا يتبنها كل اللبنانيون وهذا سبب يكفي لعدم مشاركة الناس بجنازته، حتى لو جهزوا النقليات المجانية، ودفعوا الدرلارات للمشاركين،،فاللحب قانون غير مكتوب بمفعول رجعي.

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 12/5/2014 12:49:22 AM

سعيد عقل رحل وكلّ أفكاره الجنونيّة ولكن السيف سيبقى مشهرا وستبقى حناجرنا تصدح بها ندم على كتابتها أن لم يفعل ! وستبقى عليك عيني يادمشق فمنك ينهمر الصباح حتى لو عاد وارتأى أن الصباحات تبدأ وتنتهي من لبنانه محور كونه بل كونه كلّه وسيبقى العمر يتمرجح بجدايل يارا الفلسطينية كما ياراه اللبنانيّة حتى لو لم يرد ذلك ، قد تكون علاقة الشاعر مع الكلمة كعلاقة المطرب مع صوته ، موهبة يكتشفها فيحترفها ليتدرّب بعدها على غناء الحبّ " بحرفيّة " عالية ولو لم يعرف الحبّ طريقا إلى قلبه مدى حياته بل قد يكون لعوبا ومتسلطا وأنانيّا !! وقد يكون للشاعر الموهبة في تطويع اللغة والكلمة ليكتب مالايعبّر فيه عن داخله ولكن مايدرك أن صداه عند المتلقّي كبيرا ومقدّرا ( مع أني أجد صعوبة في فهم هذه الازدواجيّة عند الشاعر !!) أم أنها الأفكار تغيّرت مع العمر والأحداث ! هل تغفر الفترات المضيئة من عمره تلك المظلمة منها ؟ سعيد عقل الإنسان رحل منذ زمن بعيد وليس منذ أيّام ولم يبق منه منذ ذلك الحين إلا شعره الذي حرّك مشاعرنا وهي أصل الموضوع لا مشاعره ، فمن يستمع لأغنية الحب يفكّر بحبيبه هو لا بحبيب المطرب أو المطربة ، ونحن أشهرنا ونشهر سيفنا لا سيفه الذي غيّر وجهته ! لايمكننا نكران استمتاعنا بمر بي ولا بروعة الحالة التي تنقلنا إليه الكلمة عبر الصوت أيّا كان قائلها ولكننا تمنّينا فعلا لو أنّ قائلها مرّ كما النسمة من بردى وترك كما علّمته حلوة الحلوين عطرا في الكون قبل أن يفلّ وليس فقط كلمات مرصوفة بإبداع حرفيّ عال !!!

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 12/4/2014 10:34:11 PM

كتير موفق الموضوع وقمته في الختام. تحياتي لك ضحى..

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 12/4/2014 2:39:11 PM

مقارنة موفّقة بين روحَي شخصيّتين جاءت لحظة تشييعهما إلى حيث المستقرُّ الأخير من "طينة" عيشهما المديد.

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 12/4/2014 2:46:55 PM

زمان والله يا ست هيفاء... اشتقنالك

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
شاركونا رأيكم