التقاليد الروسية في تقديس القائد القومي قديمة؛ لكن أبطال روسيا المعبودين، من بطرس الأكبر إلى لينين إلى ستالين، لم يحظوا بالشعبية التي يتمتع بها فلاديمير بوتين الآن؛ ربما لأنه يمزج، في شخصه، كل هؤلاء؛ فهو، كقومي روسي ملتزم، يرى في حقبتي القيصرية والاتحاد السوفياتي، العظمة نفسها، ويريد، على نحو ما، استعادتهما معاً.
بوتين أكثر من قائد قومي للروس. يبدو الابن الشرعي لروسيا الأم. ساحر يلهم شعبه حب الوطن والحياة والتحدي و الأمل. بحسب كليبات نشاطاته على اليوتيوب، يبدو الرئيس في حيوية لا نظير لها: مقاتل التايكواندو الذي يعزف البيانو ويغني ويرقص ويسبح ويغطس ويلاعب الفهود والفقمات ويقود الخيول والطائرات والدروع والغواصات، ويصدر الأوامر العسكرية الميدانية، ويسوح في أنحاء البلاد النائية، بالاحتراف نفسه، بالعفوية نفسها، بالعشق المتّقد لروسيا والروس. هذا الجانب من شخصية بوتين، يكمّل صورة القائد القومي المنكبّ على تجديد البلاد، اقتصادياً ودفاعياً، والمدافع عن مصالح الروس والكرامة الروسية في مواجهة الولايات المتحدة التي، كما قال الرئيس في خطابه الأخير، «لا تريد فقط إذلال روسيا، فقط، بل اخضاعها وحل المشكلات الأميركية على حسابها».
شعبية بوتين، بعد العقوبات الغربية، زادت إلى 72 في المئة، بينما يعلن 77 في المئة من الروس أنهم «سعداء»؛ لقد حسمت هذه الأمة العريقة، موقفها من الحياة، فهي وقفة عز.. والأولوية للكرامة! وينطوي هذا الموقف على طاقة مجتمعية ايجابية تنصرف إلى مبادرات عملية في شتى المجالات؛ إنها المحرك الوجداني للنهضة؛ ذلك المحرّك الجبّار الذي حطّمناه، في العالم العربي، بالعدمية الليبرالية والسلفية التكفيرية، والمحصلة هي اللامبالاة والحل الفردي وهجرة المبدعين ويأس المبادرين.
كيف يمكننا توصيف الوضع التاريخي الراهن لروسيا بوتين؟ «يساريون» عرب من مؤيدي الإسلام السياسي والثورات الإرهابية، الحاقدون على موسكو لوقوفها إلى جانب سوريا ضد الامبريالية الغربية والرجعية العربية والعثمانية، يرون أن روسيا «امبريالية صاعدة»، مساوين بينها وبين الولايات المتحدة! وذلك انطلاقاً من الطابع الرأسمالي للاقتصاد الروسي، وتكوّن أوليغارشية مالية في روسيا.
في الواقع، لا يمكننا القول إن الاقتصاد الروسي رأسمالي، بل هو اقتصاد مختلط يجمع القطاعين العام والخاص، لكنه، ككل، خاضع لسيطرة الدولة القومية، لا للفئات الرأسمالية التي تشكّل أرضية المعارضة ــ الضعيفة ــ في روسيا.
في الأسبوع الفائت، حضر بوتين، المؤتمر العام لـ «الجبهة الشعبية لعموم روسيا». وهي منظمة تدعم سياسات الكرملين، وتراقب أداء الوزارات والبلديات والشركات. ومن الواضح أنها تشكّل ذراعاً سياسية بوتينية، واسعة الانتشار والنفوذ؛ ما هي طبيعة هذه المنظّمة؟ ليست اشتراكية، لكنها تنموية ووطنية وشعبية، وليست برجوازية، رغم أنها ترعى المنتجين الصغار والمبادرات الاستثمارية للشباب. ربما يوضّح نشاط «الجبهة»، النهج الروسي لإدماج أوسع الفئات الاجتماعية في العملية التنموية، وحشد الطاقات والمبادرات لتسريع النموّ، على أساس قومي.
كان شباب وشابات «الجبهة» يناقشون مع بوتين، بحيوية وروح نقدية، سبل إلزام الجهاز الحكومي بسياسات الكرملين، الخدمات العامة، الاسكانات الخ، وكذلك، انتاج السلع الغذائية البديلة للمستوردات، ووسائل التغلّب على العقوبات الغربية؛ فأي رأسماليّة هذه المنشغلة بتأمين مساكن لائقة للعائلات، وتحسين الخدمة الصحية وتحسين نوعية التعليم للأغلبية؟
روسيا بلد كبير، عظيم الموارد، عميق الحضارة، لكنه لا يزال يناضل، منذ بطرس الأكبر، من أجل الانتقال إلى اقتصاد قومي فعّال ومزدهر، في ظل تقاليد العدالة الاجتماعية، الوطيدة الغور في الثقافة الروسية؛ بهذا المعنى، فإن القومية الروسية كانت، ولا تزال، تقدمية وتحررية:
تقدمية لأنها تعبر عن طموح تنموي يأخذ في الاعتبار مصالح المجتمع واحتياجات الفئات الشعبية. وهو ليس مجرد خيار وإنما انسجام مع ضرورة تمليها العملية التنموية الروسية التي تتطلب حشد الأمة وراءها، وفي سياقها.
وتحررية لأنها تناضل ضد العدوان الغربي المستمر، المتعدد الأشكال، والهادف إلى اخضاع روسيا ونهبها، منذ الغزو الفرنسي إلى الغزو الألماني في الحرب العالمية الثانية، إلى الحرب الباردة والهجمة المستمرة على الاتحاد السوفياتي حتى اسقاطه وتمزيقه ونهبه، إلى تجديد استخدام العصابات الفاشية لمحاصرته، كما حدث في الشيشان، وكما يحدث الآن في أوكرانيا.
روسيا ليست رأسمالية ولا امبرياليّة، بل هي دولة قومية ذات اقتصاد مختلط، تسعى للتقدم والرفاه، في مواجهة الامبريالية الغربية؛ ولذلك، فهي تعمل على انشاء منظومة اقتصادية عالمية بديلة، وعلى حماية استقلالها ومصالحها وحلفائها بالتشديد على سيادة القانون الدولي. ومن الواضح أن هذين المشروعين يلائمان مصالح الشعوب والدول خارج النادي الامبريالي، ما يجعل روسيا، مرة أخرى، قوة تقدمية، ومحركاً للبدائل الاستراتيجية على الصعيد العالمي.