نظام الموظفين واجتهادات القضاء الإداري لا تولي الناجحين في مباراة مجلس الخدمة المدنية حقاً مكتسباً بالتعيين، هذا السلاح تتمسك به الإدارة أو المؤسسة العامة في كل مرة تريد فيها التنصل من تعيين ناجحين في مباراة تكون هي نفسها قد طلبت من المجلس تنظيمها بناءً على الحاجة وأخذت موافقة مجلس الوزراء عليها. السؤال هو كيف تقرر الإدارة عدم الأخذ بنتائج مباريات كبدت خزينة الدولة أموالاً كثيرة لجهة القرطاسية وتعويضات اللجان والاعلانات وسواها؟ ولماذا تُنظم المباريات اذا كانت لا تحتاج الى تعيين الناجحين وفق ترتيب علاماتهم؟
الذرائع التي قدمتها الإدارة المعنية في السنتين الماضيتين عديدة، فتارة تذرعت بعدم توافر الاعتمادات للتعيين، وخصوصاً لجهة المراسيم التي تطلبت نقل اعتماد من احتياط الموازنة إلى الإدارات، وحدثت ظروف استثنائية مثل إحالة رئيس مجلس الخدمة القاضي خالد قباني على التقاعد في شباط 2013 واستقالة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي في 22 آذار 2013، وصار الأمر يجري استنسابياً في حكومة تصريف الأعمال لجهة تسيير المرفق العام، إلى أن وقّع ميقاتي في آخر عهده مجموعة مراسيم نتيجة ضغوط سياسية... وطوراً كانت الإدارة تتذرع بأنّها غير مهيئة لاستقبال الناجحين لعدم وجود أماكن لاستيعابهم. أما السبب الأكثر تداولاً، فهو أن الناجحين لا يحققون التوازن الطائفي بين المسلمين والمسيحيين، وأحياناً المذهبي داخل الطائفة الواحدة. هنا يحدث أحياناً أن يتأخر التعيين أشهراً عدة قد تتجاوز في بعض المرات مفعول النجاح، إذ إنّه بحسب نظام الموظفين (المرسوم الاشتراعي 112)، يعمل بلائحة الناجحين لمدة سنتين فقط. ومع أنّ مرسوم المباراة يحدد عدد المطلوبين تبعاً للحاجة التي تتحقق منها إدارة الأبحاث والتوجيه في مجلس الخدمة المدنية، يحصل أن يضغط الناجحون الفائضون لتعيينهم، على خلفية أن تأخير تنظيم المباراة والتعيين يخلق حاجات مستجدة. وهذا شائع تحديداً في قطاع التعليم.
بالنسبة إلى المجلس يندرج ذلك في إطار التحايل على القانون، بل إنّ الأخير لاحظ في السنوات الأخيرة ظاهرة النصوص الخاصة التي تطلب إجراء مباراة محصورة لبعض الإدارات والمؤسسات العامة، برغم موقف المجلس المبدئي ضد مباراة كهذه، لمخالفتها أحكام نظام الموظفين القائم على تنظيم مباراة مفتوحة أمام الجميع وحق كل مواطن بالاشتراك فيها. لا يزال كثيرون يذكرون مرسوم أم محمد الذي أحيا عام 2005 مباراة محصورة بالألقاب أجريت عام 1985 لدخول ملاك التعليم. وأم محمد هذه هي زوجة مدير تعليم ثانوي سابق. المفارقة أنّه يجري اليوم إعداد مشروع قانون جديد لـ512 أستاذاً ثانوياً يمثلون الدفعة الثالثة من الناجحين في مباراة عام 2008، تأخر تعيينهم 4 سنوات لعدم توافر التوازن الطائفي. في مجال آخر، يتريث مجلس الخدمة في إجراء المباراة المفتوحة لتعيين 1223 شخصاً في وظيفة أستاذ تعليم ثانوي لعدم وجود دراسة علمية وموضوعية حول الحاجة الحقيقية إلى الأعداد المطلوبة، وتوافر الاعتمادات اللازمة للتعيين المطلوب.
عدم تعيين مراقبي
الجمارك لأنّ عدد الناجحات يفوق عدد الناجحين
فالمعلوم أنّه يقع على عاتق وزارة التربية تطبيقاً لأحكام المادة 3 من القانون 630 بتاريخ 20/11/2004، وعند تحديد حاجة المدارس الرسمية إلى أساتذة أو معلمين أو مدرسين، إجراء دراسة تبين حاجة الثانويات الرسمية إلى أساتذة، وارسال نسخة عن هذه الدراسة إلى المفتشية العامة التربوية في التفتيش المركزي، الأمر الذي لم يحصل عند الموافقة على المباريات بموجب قرار مجلس الوزراء رقم 25 بتاريخ 4/3/2012.
لكن ماذا لو كانت الذريعة في عدم التعيين أنّ عدد الفائزات يفوق عدد الفائزين؟ هذا ما حصل بالتحديد مع الناجحين في مباراة مراقب مساعد في ملاك إدارة الجمارك في وزارة المال، التي صدرت نتائجها في 28/12/2011. حتى الآن لم يُعيّن سوى 60 مراقباً من أصل 280 مطلوباً، بحجة أن طبيعة الوظيفة تتطلب مواصفات بدنية وجسدية معينة، فيما 80 % من الفائزين في المباراة هم نساء. يذكر أن نص مرسوم المباراة لم يمنع النساء من المشاركة فيها، وتعطيل نتائج هذه المباراة ينطوي على تمييز جنسي فاقع. الناجحون بوظيفة كاتب ـ فئة سادسة في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي في مباراة مجلس الخدمة المدنية، يسابقون الوقت، من أجل تعيينهم، وخصوصاً أن مفعول نجاحهم ينتهي في كانون الأول المقبل، إذ إنّ النتائج صدرت في 28/12/2012. ومع أنّ الحاجة التي أجريت على أساسها المباراة بلغت 126 كاتباً، فقد عُين من أصل 310 فائزين 202 مستخدمين على دفعتين، إذ ضمت الدفعة الأولى 180 مستخدماً، والثانية 22 مستخدماً، وبقي 103 مستخدمين ينتظرون مصيرهم. حجة المنتظرين أنّ هناك حاجة إليهم لكون إدارة الصندوق حصلت على موافقة لتعديل ملاك الفئة السادسة ليصبح عدد المستخدمين فيها 584 بدلاً من 478 مستخدماً. أما ذريعة عدم التعيين فهي عدم توافر التوازن الطائفي في الناجحين المتبقين.
ولم يجد 220 مرشحاً ناجحاً في مباراة وظيفة محاسب في ملاك الإدارات العامة، باستثناء وزارة المال طريقهم إلى التوظيف بعد، فقرار تعيينهم بات في أدراج رئاسة الحكومة، بعدما تحول إليها من مجلس الخدمة منذ شهر ونصف شهر فقط، علماً بأنّ نتائج المباراة صدرت في 7/2/2014. وتشير معلومات إلى أنّه ليست هناك مشكلة في استيعاب هؤلاء، الذي سيحصل قبل نهاية العام. وكان تأخير التعيين قد طاول مباريات عدة أجريت بين عامي 2011 و2014، قبل أن يعين الناجحون قبيل مدة السنتين. هذا ما حصل مع 99 ناجحاً من أصل 200 طلبتهم مؤسسة كهرباء لبنان، في مباراة صدرت نتائجها في نيسان 2013. وقد مضت أشهر عدة قبل أن يوافق وزير الطاقة السابق جبران باسيل على تعيين الناجحين في مباراة لملء الشواغر في المصلحة الوطنية لنهر الليطاني، لأن نتائج المباراة لم تتوافق مع المصالح السياسية. ولم يعرف 10 مهندسين نجحوا في المباراة لمصلحة مديرية الموارد الكهربائية والمائية في وزارة الطاقة والمياه لماذا بقي مشروع مرسوم تعيينهم أسير أدراج رئاسة الحكومة الميقاتية وتأخر تعيينهم نحو20 شهراً، برغم توافر الاعتمادات في موازنة الوزارة. وما جرى في إدارة الإحصاء المركزي ليس مختلفاً، إذ عين الناجحون أيضاً بعد أكثر من سنة ونصف سنة، بحجة عدم وجود اعتمادات، علماَ بأنّه نجح 47 متقدماً من أصل 65 مطلوباً.
يشارك الآلاف من اللبنانيين في الامتحانات الوظيفية التي يجريها مجلس الخدمة المدنية، باعتبار أنَّ الوظيفة في القطاع العام تؤمن لهم استقراراً وظيفيا وضمانا صحيا ومعاش تقاعد.
وتشير آخر الاحصاءات الواردة في تقرير مجلس الخدمة لعام2011، إلى أنّ دائرة المباريات أجرت 31 مباراة اشتملت على 965 فرصة عمل. وقد بلغ عدد المسجلين 11400 شخص، وعدد المقبولين للمشاركة في المباريات 11200 فيما بلغ عدد المشتركين 8993 وعدد الناجحين 1254 شخصاً. وقد بلغت نسبة عدد الناجحين إلى عدد المشتركين الإجمالي 13.94 % مع الإشارة إلى أنه خلال عام 2011 أحيل على التقاعد أو استقال أو اعتبر مستقيلاً 1491 موظفاً من السلك الإداري والتعليمي والخارجي ومن مختلف الفئات الأولى والثانية والثالثة والرابعة والخامسة.
لم يزل التصرف في الإدارات العامة والمؤسسات العامة، كما يقول رئيس مجلس الخدمة السابق خالد قباني، كأنها اقطاعات للطوائف والمناطق والأحزاب والقوى السياسية، بل مقتنيات، يجري تقاسمها، بالتوافق طبعاً، ومن ثم استتباعها، والتصرف بها، بعيداً عن مفهوم الخدمة العامة والمصلحة العامة، وما يتضمنه مفهوم المرفق العام، من احترام لمبدأ المساواة بين المواطنين.