القاهرة |توفي أمس الروائي المصري محمد ناجي عن عمر يناهز 68 عاماً في أحد مستشفيات باريس؛ حيث كان يتعافى من عملية زرع كبد في الأسبوع الماضي. انطفأ تاركاً إرثاً روائياً مميزاً: 7 روايات مطبوعة، وأخرى قيد النشر، بالإضافة إلى ديوان شعري وحيد.
رحلة طويلة من العلاج قضاها محمد ناجي (1947-2014) في باريس بعدما اشتد عليه المرض. كانت أيامه الأخيرة التي شهدت زراعة الكبد والسرطان صعبة جداً. لكن هذا الروائي الذي حمل على عاتقه راية التجديد في النص الروائي العربي منذ البداية، استطاع ترك بصمته الخاصة بين الأصوات الروائية العربية. ولد في مدينة سمنود، وتخرج في كلية الآداب (قسم الصحافة)، قبل أن يلتحق بالخدمة العسكرية بين 1969 و1974. في بلاط صاحبة الجلالة، استطاع بعين الكاتب الفاحصة أن يتلقط قصصه المميّزة، ويضيف الملح إلى خميرة الأسطر غير المكتملة.

أراد ببساطة أن يكون أحد هؤلاء الذين يضيفون بعداً شرقياً إلى الواقعية السحرية؛ فلم تخلُ رواياته من تلك النزعة الأسطورية التي تمتزج بصخب الواقع. عالم ناجي ثري يموج بالعديد من الشخصيات الثانوية الكادحة التي تشحذ لقمة العيش من فم الشمس. يميل إلى طبقة البسطاء والمهمشين والقتلة والنازحين. ذو لغة سردية خاصة تميل إلى العذوبة وتحتفي ببكارة القرية المصرية، لكنها في الوقت ذاته لا تخلو من مفردات خشنة توزع على أرصفة المدينة الشاسعة. وعندما نتحدث عن عالم ناجي الساحر، لا بد من أن يتوارد إلى ذهننا درته الأدبية "خافية قمر" (دار الهلال-1994). لا ينتمي العمل الأدبي السابق إلى كليشيهات المنتج الإبداعي. عمل ناجي على تضفير مجريات السرد في تلك الرواية، واستخلاص حكاية أقرب إلى الواقعية السحرية التي تكتسب شخصوها من الريف المصري. بداية من العنوان، يبدو التناقض واضحاً بشأن الدال والمدلول. الخافية التي تخفي الرُحّل والمسافرين، يتبعها قمر منير يشردهم في الليالي المعتمة. في دراسته الرصينة حول الرواية، يقول الناقد محمود عبد الشكور: "ولأن مضمون الرواية وجوهرها هو تقلّب القلوب وحيرة العقول وتغيّر الوجوه والبشر والحياة، ولأن مغزاها الفلسفي هو نسبية المعرفة وزئبقية الحقيقة، فإن شكل السرد وطريقة البناء من العنوان إلى السطر الأخير مروراً بدور الراوي وتقسيم الفصول والدوائر التي تحيط بالشخصيات وتجعلها تدور حول نفسها، كل ذلك يصنع متاهة ذهنية ومعرفية مقصودة، كأن ناجي ألقى في الماء بحجر كبير صنع أولاً دائرة صغيرة هي مأساة قمر، ثم صنعت الدائرة دائرة أكبر هي مأساة عبد الحارس، ثم دائرة أكبر وأكبر هي مأساة الإنسان الباحث عن أصله وماضيه وحاضره ومستقبله».

ببراعة شديدة سحن ناجي توظيف أدواته السردية. في رواية "لحن الصباح"، يشير إلى تناقضات المجتمع بين اللامبالاة والتقدير؛ حيث تنتهي مهنة رسام بارع بعد أن يُصابْ بالرعشة في يديه، ثم ينتهي به الأمر في صنعة أخرى، وكذلك شخصية "فانوس" التي تحمل في كنفها القلق المديني واضطراباته. وفي النهاية، يتحول الجندي من بطل إلى مزهرية مهشمة بلا قيمة عندما تنتزع منها ورود الرغبة في الحياة. المجتمع الاقتصادي إذن يطحن وبشدة. لا يرحم أحداً. لكن ناجي برواياته التي تسلط الضوء على جشع رأس المال وعلاقته المتوترة بالعاطفي المفقود كما في أعماله "الأفندي" و"ليلة سفر" و"العايقة بنت الزين"، يؤكد لنا أن الموروث الشعبي ركيزة للاندفاع نحو ادراك جشع الحاضر.

عندما نعود إلى دراسة عبد الشكور عن عالم ناجي، نراه يلخصه في أربعة مفاتيح أساسية هي: الذاكرة، الشخوص، ازدواجية السؤال والإجابة، وأخيراً المرأة. من هنا يقول القاص أحمد الخميسي: "ستستوقفك لغة محمد ناجي الخاصة التي امتازت بها رواياته اللغة الدافئة والمريرة. فصحى تتنفس بروح اللغة الشعبية بأوسع معاني اللغة الشعبية أي بكل ما تنطوي عليه في صياغاتها من اعتقادات وحكمة وخيال". ولا ننس أيضاً أنه ترك ديواناً وحيداً بعنوان "تسابيح النسيان" حيث مزج رقة الشعر بعمق النثر. عاش ناجي بعيداً عن الأوساط الإعلامية رغم مساهماته الإعلامية المميزة في وكالة «رويترز» وتلفزيون «الإمارات» وتأسيس جريدة «الأيام» البحرينية. وقد كانت باريس إحدى قبلاته التي يتردد عليها. لقد كان أحد تلك الأصوات التي حاولت إعلاء قيمة الفرد أمام سطوة «البنكنوت» في عالم "القلق العظيم".