استظلت القوى الامنية بالغطاء السياسي الممنوح لها في طرابلس لاعادة ترتيب بعض الاوضاع الناشئة هناك. عمدت منذ الاسبوع الماضي الى تنفيذ حملة لازالة نحو 50 بسطة (أغلبها تخشيبات أو سيارات فان قديمة) مقامة على كورنيش الميناء البحري، بحجة أنها مخالفة للقانون وأنها تسيء إلى وظيفة الكورنيش ومنظره.
هذه الحملة «الامنية» التي خلت من اي بعد اقتصادي واجتماعي، اثارت ردود فعل أصحاب البسطات والأكشاك، فأقدموا امس مع عائلاتهم على قطع طريق الكورنيش في الاتجاهين بالإطارات المشتعلة، مطالبين بالبديل، رافعين شعارات من نوع «قطع الاعناق من قطع الارزاق». هذا التحرّك حاول لفت النظر الى وجود 50 عائلة تعتاش من هذا العمل، فضلا عن مئات الزبائن الذين يرتادون الكورنيش لقضاء الوقت من دون تكبّد اكلاف باهظة تترتب على ارتياد المقاهي والمطاعم المرخصة.
أسئلة كثيرة طُرحت عن أسباب الحملة وتوقيتها، من دون ان يصدر اي بيان رسمي توضيحي، ما اطلق العنان للشائعات التي رمت الاتهامات في كل اتجاه.
مصادر أمنية مطلعة قالت لـ»الأخبار» أن «3 اسباب رئيسة دفعت لتنفيذ حملة ازالة المخالفات عن الكورنيش. الأول ان المخالفات تكاثرت في الآونة الأخيرة على طول الأوتوستراد البحري، وشوّهت المنظر العام بسبب فوضويتها. الثاني ان شكاوى كثيرة وردت عن ممارسات تحصل على الكورنيش كترويج الدعارة والمخدرات. والثالث ان الوضع الناشئ على الكورنيش يثير المخاوف من استغلاله للقيام بعمل أمني ما». واضافت مصادر اخرى سببا رابعا قد يكون «جدّيا» ويتمثل بضغوط مارسها اصحاب المطاعم والمقاهي المرخصة في المنطقة الذين باتوا يشكون من منافسة المخالفين على الكورنيش.
أصحاب المطاعم
والمقاهي المرخصة مارسوا ضغوطا لإزالة المنافسين



هذه الاسباب تتكرر عادّة عند كل حملة لازالة مخالفات «الفقراء»، الا انها تغيب كليا عند الشكوى من مخالفات اصحاب الرساميل الذين احتلوا مساحات شاسعة من الاملاك العامّة، ولا سيما على الشاطئ والبحر، وبعضهم جاهر علنا بنيته استثمار الواجهة البحرية في الميناء في مشاريع سياحية مغلقة مخصصة لاصحاب المداخيل المرتفعة، بما في ذلك ردم مليون متر مربع في البحر واقامة نواد لليخوت وفنادق وشقق للسياح. وبحسب المعلومات يوجد مشروعان جرى طرحهما على بلديتي طرابلس والميناء لاحتلال كورنيش الميناء والشاطئ هناك وحرمان سكان المدينة المتنفس الوحيد لهم على البحر.
انعدام الثقة بالقرارات الادارية لازالة المخالفات، دفع المراقبين للبحث عن الاسباب الحقيقية. بعض هؤلاء يستبعد ان يكون الهدف «تنظيف» الكورنيش من شاغليه تمهيدا لاحتلاله من اصحاب الرساميل النافذين. هؤلاء يعززون طمأنينتهم بالقول ان المخالفات أزيلت من الطريق ومن على الرصيف، ولكن ما هو قائم على شاطئ البحر فوق الصخور والرمال من خيم ومظلات قش وبسطات بقي. ويشيرون الى أن مشروع المستثمر يوسف فتال لردم البحر يقع خارج نطاق الكورنيش، وتحديداً جنوب الملعب الأولمبي، وبالتالي لا علاقه بينه وبين إزالة المخالفات والبسطات عن الكورنيش، الا ان البعض الآخر لا يسقط احتمال استكمال الحملة لتطاول المخالفات على الشاطئ تحت الكورنيش، فضلا عن ان المشروع الآخر الذي طرحه النائب روبير فاضل لردم مليون متر مربع من البحر، يقع في منطقة الكورنيش حيث أزيلت المخالفات، وهو يمتد من الملعب الأولمبي شمالاً وصولاً إلى الواجهة البحرية أمام فرع جامعة بيروت العربية. والمعروف ان هذا المشروع يشارك فيه سياسيون ومتمولون أبرزهم الرئيس السابق فؤاد السنيورة، وقد جرى الترويج له بوصفه حاجة تنموية لتوفير فرص عمل لشباب وشابات طرابلس، الا أن المشروع المذكور واجه عقبات عدة، منها عقبة قانونية تتمثل في أنه عندما أنشئ الكورنيش البحري أواسط ثمانينيات القرن الماضي بمشروع قانون جرت الموافقة عليه في مجلس النواب، تضمن فقرة تنص على عدم امكانية تعديل وجهة الكورنيش ومنطقته إلا بقانون مماثل.
في ظل هذه الشكوك تداولت الأوساط الأمنية والسياسية في طرابلس والميناء (على نطاق ضيق) معلومات (مجهولة المصدر) عن نيات لإقامة مخيم للنازحين السوريين في المنطقة، عبر وضع خيم على طول الكورنيش، الأمر الذي استدعى وضع اليد «الامنية» على الكورنيش، الا ان جهات سياسية وأمنية عدّة اتصلت بها «الأخبار» نفت علمها بتوافر نيّات كهذه، اذ ينفي رئيس بلدية الميناء السابق، عبد القادر علم الدين، علمه بوجود نيات لإقامة مخيم للنازحين السوريين على الكورنيش، وقال «إذا كان هيك خلوا البسطات والعربات المخالفة أفضل»، ولكنّ محافظ الشمال القاضي رمزي نهرا أكد وجود مثل هذه النيات، الا انه جزم بأن «هذه المحاولات لن يكتب لها النجاح». وقال نهرا إن «سياسيين ورجال دين في طرابلس والميناء تجاوبوا معنا في هذه الحملة، ولم يبدوا اعتراضات عليها»، مؤكداً في الوقت نفسه «لن نرضخ لأي ضغوط في هذا المجال».
يبلغ طول كورنيش الميناء نحو 7 كيلومترات، ويمتد من مرفأ الصيادين إلى الملعب الأولمبي عند المدخل الجنوبي لمدينة طرابلس، وكان يعجّ يومياً بمئات هواة رياضة المشي، إلى حدّ أنه كان في عطلة نهاية كل أسبوع يزدحم بزواره من مختلف المناطق والأعمار، ولا يبقى فيه موطئ لقدم.
الشكاوى من المخالفات والتجاوزات على الكورنيش البحري ليست جديدة، فمنذ إنشائه في مطلع ثمانينيات القرن الماضي والشكاوى مستمرة، وفي كل مرة كانت شرطة بلدية الميناء أو عناصر قوى الأمن الداخلي يتدخلون لمنع تفاقمها وضبطها، قبل أن تعود لتبرز من جديد، وهو ما حصل أخيراً بعدما استغل أصحاب البسطات والعربات المخالفة فرط بلدية الميناء ووضعها في عهدة محافظ الشمال رمزي نهرا، ما عدّوه ضعفاً في الرقابة على ما يقومون به من مخالفات، اذ عمد بعضهم الى وضع صور سياسيين ونواب لتأمين الغطاء لهم، ولا سيما صور وزير العدل أشرف ريفي، كما عمد بعض المستقوين هناك الى فرض خوات على بعض أصحاب البسطات والعربات.
المحافظ نهرا، الذي يتولى الوصاية على بلدية الميناء بعد فرطها، عقد سلسلة لقاءات أمس لمتابعة تداعيات الحملة، واوضح ان هذا القرار اتخذ بعدما زادت التعدّيات على الأملاك الخاصة والعامة في المنطقة على نحو غير منطقي». وأشار إلى أن «الكورنيش اصبح مرتعاً للزعران، فيما أصحاب المطاعم والمقاهي المرخصة في المنطقة تزايدت شكاواهم من أن هذه المظاهر باتت تضرّ بأعمالهم وتدفع الزبائن إلى عدم ارتياد المنطقة». واشار نهرا الى «وجود تصوّر لتنظيم البسطات والأكشاك على الكورنيش، ولدينا خرائط في حال تنفيذها ستسهم في تنشيط الوضع الاقتصادي ورفع المردود الاقتصادي لأصحاب الأكشاك أضعافاً كثيرة، وأن يصبح الكورنيش متنفساً لكل الناس، وأن يأتي روّاده إليه من كل المناطق اللبنانية».
رئيس بلدية الميناء الأسبق عبد القادر علم الدين الذي زار نهرا امس لاستيضاحه، قال لـ»الأخبار» إن الحلّ يكون بتبنّي مشروع «باسم»، الذي أعدته بلدية الميناء قبل سنوات بالتعاون مع الاتحاد الاوروبي، والذي ينظم وضع الأكشاك والبسطات وعملها على الكورنيش، واستكمال تأهيل الواجهة البحرية، وهو مشروع من شأنه إذا نفذ أن ينهي الفوضى القائمة، ويؤمّن فرص عمل ويعيد إلى الكورنيش مكانته».
بدوره، أوضح رئيس لجنة رعاية البيئة في الميناء عامر حداد أنه قدّم للمحافظ نهرا «خرائط يمكن اعتمادها في عملية تنظيم الأكشاك والبسطات على نحو مدروس، وأن يكون عدد الأكشاك 50 بين كل كشك وآخر مسافة لا تقل عن 100 متر على الأقل، وأن المحافظ وعد خيراً، وأنه سيتخذ القرار المناسب بعد مراجعة وزارتي الداخلية والأشغال».