إن كنت مّمن عرفوا الحاسوب مع نهايات التسعينات أو بدايات الألفية الجديدة، فعلى الأغلب أنّ أوّل ما تفكّر في إضافته إلى أي جهاز جديد هو حزمة «مايكروسوفت أوفيس» (Microsoft Office). بعد خمسين سنة، قد تُدوّن مغامرات الحصول على هذا البرنامج ضمن التراث الشعبي لكلّ بلد. في بلاد الشّام، مثلاً، معظم المستخدمين العاديّين لم يُفكّروا به يوماً كمنتج مدفوع، إلّا إذا اعتبرنا الألف أو الألفي ليرة لبنانية التي تُدفع لمحلّ الـ CD على أنّها سعر للبرنامج وأنّ صاحب المحلّ يحوّلها لبيل غيتس آخر كلّ شهر بواسطة الـ «ويسترن يونيون».
تقريباً لم يكن أحدٌ يبالي إن كان هذا الـ CD يحمل إلى جانب الـ «أوفيس» المجّاني فيروساً يجتاح جهازك أو أنّه مجرّد «crack» طبيعي من «هاكر» لبق. كان السوريّون عموماً أمهر هؤلاء الـ «هاكرز»، وكانت مجموعة الـ «DVDs» السورية التحضير تأتيك بما لذّ وطاب من البرامج، التي لو أردت شراء نسخها الأصلية لأنفقت عشرات الآلاف من الدولارات، ولو فحصت ما فيها لرأيت الفيروس يتعايش مع مضادّ الفيروسات بوئام كامل. ومن هذه الوجهة، لا ينقسم الأمر بين شمال العالم وجنوبه: الكلّ يقرصن، وروسيا والصين والولايات المتّحدة في طليعة الدول حيث تنتشر القرصنة. و»أوفيس»على أعلى لائحة ما يريد الناس الحصول عليه مجّاناً، وبالتالي مُقرصناً.
مع مرور الوقت، صمد الـ «وورد» (Word)، وهو معالج النصوص في «أوفيس»، كحوتٍ كبير، ابتلع كلّ البدائل التي طُرحت، وما زاده ذلك مع الوقت إلّا ضخامةً. راهنت مايكروسوفت على اعتياد مستخدميها، وخاصّة المؤسّسات حيث مصدر أرباحها، على هذا البرنامج، وعلى أنّ كلفة استبداله لا تقتصر على المال، بل على إعادة تدريب الطاقم البشري على أي بديل جديد. لكنّ ذلك لن يجدي على المدى البعيد. وإن بدا ما سيَردُ غريباً بعض الشيء، إلّا أنّ السطور الآتية هي نعي استباقي للـ «وورد» بشكله الحالي. بعد سنين، لن يخطر على بال الغالبية أن يثبّتوا برنامجاً كهذا على حاسوبهم، وهو ما أراه خبراً سعيداً. ولدعم هذا التوقّع، يمكن ملاحظة ستّ ظواهر تؤشّر الى ضمور الـ «وورد» في السنين المقبلة، بعد أن كان أمضى أسلحة «الأوفيس»:

الكتابة على السحابة

ما أصاب مايكروسوفت في مقتل في السنوات الأخيرة هو رواج الخدمات التي تخوّلك الكتابة مباشرة من متصفّح الإنترنت، مثل خدمة Google Docs التي تحفظ ما تكتبه تلقائيّاً على ما يُعرف بالـ «سحابة»، أي على شبكة غوغل نفسها وليس على حاسوبك الخاص. هذه الخدمة تقوم على لاءات بسيطة: لا حاجة لتثبيت أو تحديث أي برنامج على الحاسوب، لا ضرورة لضغط زرّ «حفظ» إذ أن كلّ شيء محفوظ أوتوماتيكياً، ولا ضرورة لأن تحمل همّ نقل ملفّاتك معك أينما ذهبت إذ يكفيك أن تفتح ما كتبته من أيّ متصفّح على أي جهاز في أي وقت. كل ذلك كان عكس الـ «وورد»: فمن منّا لم تذهب ساعات من عمله في لحظة انطفأ فيها الحاسوب فجأة، أو لأنّ فايروساً معيّناً أتلف ملفّاً ما، أو لأنّه نسي أن يحمل جهاز الـ USB معه من المدينة الأخرى؟

الحاجة إلى التعاون

تغطّي الهواتف والألواح الذكية اليوم جزءاً كبيراً من حاجة الناس للتواصل والعمل ومايكروسوفت أتت متأخرة إلى هذه السوق

لا يستطيع شخصان أن يعدّلا في الملف نفسه في الوقت نفسه في «الوورد» على الحاسوب. يمكن لواحد فقط أن يكتب ما يريد ثم يُنبئ الآخر بأنّ الملف جاهز للتعديل، وهكذا دواليك. وهذا ما يُؤثّر سلباً على الإنتاجية، وخاصة في الحالات التي يعمل فيها عدّة أشخاص على محتوى معيّن. خدمات مثل Google Docs وQuip سبقت مايكروسوفت بحلّ ذلك منذ عدّة سنوات، وأمّنت التعاون بين عدّة أشخاص في الوقت نفسه، سواء عبر المتصفّح أو الهاتف.

موجة التخصص

لم يعد ينفع الـ «وورد» أن يبقى برنامجاً لكلّ شيء: لتدوين الملاحظات، لكتابة المقالات، لتحضير الأوراق البحثية، وحتّى لقراءة الكتب. العصر يتّجه إلى التخصّص، وكلّ مجال بات له عمالقته الذين يبدأون بخدمة واحدة فقط، لكن يتقنونها. وهذه الحال مثلاً في برنامج كـ Evernote لتدوين الملاحظات من صور وكتابات يمكن البحث فيها بسرعة فائقة. وكذلك الحال مع برنامج Todoist، حيث تكتب لائحة المهام التي تنوي القيام بها، ولا شيء آخر هناك ليشتّت انتباهك.

الموبايل أوّلاً

تغطّي الهواتف والألواح الذكية اليوم جزءاً كبيراً من حاجة الناس للتواصل والعمل عندما لا يكونون الى جانب الحاسوب. لكن مايكروسوفت أتت متأخرة جدّاً إلى هذه السوق، تماماً كما أتت متأخّرة بنظام «ويندوز فون» لتواجه «iOS» من آبل وAndroid من غوغل. وحتى تاريخ كتابة هذه السطور، فإنّ الكتابة باللّغة العربية على برنامج الأوفيس في أندرويد تظهر كلّ حرف على حدة، وهذا مجرّد مؤشّر على عدم نضوج البرنامج بعد على الهاتف.

المحتوى قبل التصميم:

على واجهة «الأوفيس» آلاف الخدمات الممكن استخدامها. لكن، في الحقيقة فإنّ الغالبية الساحقة من المستخدمين لا تستخدم إلا قلة قليلة منها، ولذلك بات المستخدمون الجدد يذهبون إلى حلول أخرى أكثر بساطة. في الإطار نفسه، تسود اليوم موجة ما يسمّى بالـ «Distraction Free Writing»، أو الكتابة التي تركّز على المحتوى، فأغلب المستخدمين باتوا يريدون التركيز على ما يكتبونه من دون أن يروا شيئاً آخر على الشاشة، وعدا الذين يحضّرون ملفّات كي تُطبع أو تُنشر، فلا ضرورة للغالبية أن يزخرفوا ما يكتبونه بتصاميم معقّدة.

السعر:

ومن حيث النموذج الربحي، لا يزال «الأوفيس» يعيش في الماضي. فإمّا أن تدفع وتحصل على كل شيء أو ألّا تدفع ولا تحصل على شيء. في معظم البرامج والخدمات الحديثة، يسود نموذج الـ «Freemium»، إذ أن هناك نسخة مجّانية بالكامل ونسخة مدفوعة لمن يرغب في خصائص متقدّمة تكون أكثر توجّهاً للشركات. حتّى أن «آبل» توفّر اليوم حزمتها iWork مجّاناً بالكامل مع الأجهزة الجديدة. وبالتالي باتت مروحة الخيارات البديلة في اتّساع يُنذر بتآكل حصّة مايكروسوفت.

مايكروسوفت واللحاق بالركب:

تحوّلت مايكروسوفت من محتكر لأنظمة «الأوفيس» إلى من يحاول اللحاق بالركب في عصر السحابة، ومن حسن حظّها أنّ هذا السوق لم يُحتكر بعد من غيرها. ولكنّها لا تزال ثقيلة الخطى، يحدّها عدد المستخدمين الكبير، الذين لا يمكن تغيير كلّ شيء لهم بين ليلة وضحاها، وتحدّها بعض الشركات التي تريد الـ «وورد» من دون إنترنت، كي لا تذهب أسرارها للخارج. أمّا أمامها فـ «غوغل»التي تُشبه القرن الحادي والعشرين أكثر في حزمتها Google Docs، وأمامها شركات أخرى ناشئة، مثل Quip، التي أنشأها موظّفون سابقون في غوغل وفايسبوك وباتوا يقارعون الكبار. وعلى هذا الطريق، أنشأت مايكروسوفت مؤخّراً موقع Office.com، الذي يعطي خدمة «الأوفيس» مجّاناً من المتصفّح، إلّا أن الخدمة أبطأ بعدة أضعاف مقارنة مع الحلول الأخرى. وبالرّغم من أنّها تُعلن عن إمكانية تعاون عدّة أشخاص على ملفّ معيّن، إلّا أنّ ذلك غير متاح من الموبايل مثلاً. وإلى جانب ذلك، فتحت مايكروسوفت حزمة «الأوفيس» مجّاناً على الهواتف والألواح الذكيّة، بعد أن كانت تطلب من المستخدمين أن يدفعوا لمجرّد إجراء تعديل في ملفّ معيّن. والخطوة الأكثر دلالةً هي أنّ هذا العملاق لجأ إلى التعاون مع شركة Dropbox، التي تؤمّن مزامنة الملفّات بين عدّة أجهزة عبر السحابة، لأنّ عدد مستخدميها أكبر بكثير من عدد مستخدمي سحابة مايكروسوفت (OneDrive). وضمن هذا التعاون، تحاول Dropbox أن تصلح ما عجزت عنه مايكروسوفت بأن تخوّل تعديل الملفّ نفسه على الحاسوب (وليس فقط على المتصفّح) من قبل عدّة أشخاص في الوقت ذاته، وإعطاء هؤلاء إمكانية إجراء محادثات تفاعلية إلى جانب الملفّ.



لمن المستقبل؟

إن قُدّر لي أن أرسم ملامح معالج النصوص المستقبلي، لبدأت بمثال Evernote Context، وهو حصان Evernote للولوج إلى هذا السوق. ببساطة، تقوم فكرته على التالي: تبدأ بالكتابة كما اعتدت على المتصفّح، ولكن مع الوقت تتعرّف الخدمة على الموضوع الذي تكتبه وتبدأ باقتراح روابط ذات علاقة من الإنترنت، ونصوص مرتبطة لك أو لمن تعاونت معهم سابقاً. حتى أنّه إذا ذكرت شخصاً معيّناً في النصّ، أتى لك بـ «بروفايل» هذا الشخص من موقع»LinkedIn»، كي تعرف ما هو جديده. نحن هنا أمام استخدام للذكاء الاصطناعي في خدمة الكاتب لتوسيع أفقه دون أن يغادر صفحة الكتابة. ما أريده من معالج النصوص المستقبلي أن يبدأ من هنا، بأن يكون ذكّياً وبسيطاً في الوقت ذاته، وهو ما فشل فيه الـ «وورد». لا أريد أن أرى الخيارات الجمّة بل أن يظهر ما أحتاجه تلقائياً عندما أحتاجه. أريد أن أتفاعل مع الآخرين حول كلّ جملة في النصّ، وأن يحاول البرنامج إفادتنا خلال النقاشات باقتراح ما قد يساعد على إثرائها. أريده أن يكون مفتوحاً، أي أن يحسن التفاعل مع الخدمات الأخرى، فعندما يحين وقت موعدي وأنا أعدّل نصّاً أتوقّع أن يأتيني تنبيه منه بأن أكمل التعديلات لاحقاً. وإلى ذلك، أريد أن يعطيني تحليلات عن كيفية تفاعل الآخرين مع ملفّ أرسله إليهم: يهمّني أن أعرف إن فتحوه أم لا، إن قرأوه أم لا، وإن أرسلوه لغيرهم أم احتفظوا به لأنفسهم. أريده أن يلفتني إلى نقاط ضعفي في الكتابة، وليس فقط إلى أخطائي اللغوية، وإلى مدى تشابه نصوصي مع نصوص أخرى كي لا أقع في فخّ التكرار.
ليست هذه بالأحلام، بل هي مجرّد مكوّنات أراها لمعالِج المستقبل، وهو ما لا أظنّ مايكروسوفت ولا حتى غوغل سيطوّرونه، والمجد هنا للشركات الناشئة، التي تبيعنا الأحلام الكبرى وليس فقط حزمة من البرامج. المجد سيكون لها لأنّها الأقدر على التغيير الجذري وأن تنقذ مليار مستخدم عالقين بين براثن القرن العشرين.