ليس امرا عابرا أن يدلي وزير التربية الياس بو صعب في مقابلة تلفزيونية أنّ «نصف المدارس الرسمية في لبنان تقفل إذا لم تستقبل التلامذة السوريين». هذا التصريح، وإن رآه البعض مبالغاً فيه لجهة نسبة تعثر المدارس (أي 50%)، الا إنّه يفتح نافذة على واحدة من المشكلات البنيوية في التعليم الرسمي، سبقت الأزمة السورية بسنوات وتعود إلى ما بعد الحرب الاهلية مباشرة.
صحيح ان هذا التصريح لا يستند الى معطيات رقمية محددة، الا انه ينطلق من قناعة راسخة بان عددا كبيرا من المدارس الرسمية بني في اماكن ليس فيها عدد كاف من التلامذة، وتفيض عن الحاجات الفعلية. طبعا لاسباب عدّة تتصل بالسياسات والزبائنية، وترافق ذلك مع الدفع نحو ضرب مستوى نوعية التعليم الرسمي وجودته، ودعم التعليم الخاص من المال العام (الاعفاءات الضريبية والمنح التعليمية والتحويلات للمدارس الخاصة المجانية... الخ).
في الوقائع، تضاعفت اعداد التلامذة السوريين في المدارس الرسمية اللبنانية نحو 7 مرات منذ بداية الأزمة في سوريا، اذ ارتفعت هذه الاعداد من 14522 في العام الدراسي 2010 ـ2011 إلى نحو 100 ألف في العام 2013 ـ 2014، بين دوامي قبل الظهر وبعد الظهر. المقاربة الوحيدة الموجودة حاليا للتعامل مع هذه الضغوط تنحصر فقط في التفكير بالطاقة الاستيعابية واستجلاب التمويل لتعليم هؤلاء كيفما كان، وربط تسجيلهم بالضغط على المجتمع الدولي لاستحصال الأموال، بحسب ما عبّر وزير التربية في المقابلة نفسها. وهذا ما يدفع الى التساؤل المشروع: إذا كان حجم المدارس المتعثرة كبيرا فعلاً، فلماذا لم تقفل منذ 20 سنة أو 10 سنوات؟ ولماذا الإصرار على مواصلة الهدر المالي وهدر الطاقات التعليمية إلى ما لا نهاية؟
برأي بعض التربويين، لم يكن توزيع المدارس الرسمية يوماً عقلانياً، أي على قاعدة معرفة عدد التلامذة الذين يقطنون في المكان، وأعمارهم وما إذا كانوا يحتاجون إلى تعليم أساسي أو متوسط أو ثانوي، بل إن كل محاولات المعالجة في السنوات الماضية لم تتجاوز نهج «الترقيع»، حتى في مجال اتخاذ قرارات الإقفال أو الدمج بين المدارس التي حصلت عام 2010 في عهد الوزير حسن منيمنة (إلغاء ودمج 75 مدرسة)، وبعدها إجراءات الوزراء المتعاقبين بإقفال 4 أو 5 مدارس في السنة الواحدة، بدليل أن بعض هذه المدارس كان يعاد فتحها بعد أسبوعين لمجرد أن المدير أو المعلمين يستقوون بالمرجعية السياسية ولا يريدون الانتقال من المدارس القريبة من أماكن سكنهم. هذا الواقع يدفع كثيرين إلى القول: «ولا مرّة فتحنا مدرسة استناداً إلى الحاجات المستقبلية، والمعيار كان دائماً نائب طلب مدرسة من هون، ومختار بدّو مدرسة بضيعتو».
غياب التخطيط، والتوزيع العشوائي للمدارس الرسمية، سمحا بارتفاع مبان مدرسية كبيرة «خاوية» لاعتبارات سياسية. احيانا لا يتجاوز عدد التلامذة في اي منها العشرات، فيما يُترك أطفال آخرون في أماكن أخرى بلا مدارس، إما بسبب غياب مرحلة الروضات أو عدم تطبيق إلزامية التعليم ومجانيته في المدارس الرسمية، أو ببساطة عدم توافر البناء المدرسي في اماكن مختلفة، أو لأنّ الطاقة الاستيعابية لهذا البناء محدودة. كذلك فإنّ ما تسميها الوزارة «تدابير وقائية داخلية»، تقوم على دمج صفوف متعثرة في سنوات دراسية مختلفة، عندما لا يتجاوز عدد التلامذة في الصف الواحد 3 أو 4 طلاب، فانما كانت تُتّخذ بهدف خفض الكلفة المالية فقط، اي من دون إعارة أي اهتمام للمعطى التربوي. بمعنى ما، سيطرت التدابير المؤقتة على التخطيط، فيما كانت الحكومة توفّر الدعم للطوائف في إنشاء مدارسها المجانية ذات المستوى التعليمي المنخفض، التي استقطبت تلامذة المدرسة الرسمية (ولا سيما في مرحلتي الروضة والابتدائي)، وتنافس الجهات الطائفية والحزبية الدولة عبر الإغراءات التي تقدمها، كالإعفاء من القسط أو تأمين بدل النقل او الكتب.
لم تعد المدرسة الرسمية (تحديدا في مراحل التعليم الاساسي) خيارا الا للاسر التي تحتاج الى الدعم المباشر لتأمين حق اولادها بالتعليم، على الرغم من القناعة السائدة بأن مستوى المدرسة الرسمية يهمّش أولادها بدرجة صادمة. قد لا يجوز تعميم هذا المشهد، إلاّ أنّ ما ترويه إحدى المعلمات المكلفات مهمات إشرافية عما شاهدته في مدرستين في بيروت وجبل لبنان، لجهة ترك أولاد لبنانيين وعراقيين وسوريين في عزلة شديدة يعانون فقرا شديدا وعنفا معنويا وجسديا قد يدفعهم إلى حد «سحب سكاكين»، يستحق الوقوف عنده.
لا يمكن التطرق الى ازمة المدرسة الرسمية من دون التطرق إلى عشوائية المناقلات السياسية للمعلمين، وكيف تستجيب هذه المناقلات للوثة الميل إلى الاسترخاء وعدم الانتاجية التي أصابت معلمي الملاك بصورة خاصة، على قاعدة «كل واحد بدّو يعلّم حد بيتو»، مروراً بسياسة التعاقد التي خرّبت التعليم الرسمي بمراحله كافة، إذ تشير النشرة الإحصائية الأخيرة الصادرة عن المركز التربوي للبحوث والإنماء عام 2012 ــ 2013 إلى أنّ هناك 26 ألف و84 معلماً في الملاك، مقابل 14 ألف و308 متعاقدين، يضاف إليهم مئات المتعاقدين الذين دخلوا التعليم في السنتين الأخيرتين.
تضاعفت اعداد التلامذة
السوريين في المدارس الرسمية نحو 7 مرات منذ بداية الأزمة

ومع أن روابط المعلمين ترفض مقولة أن هناك أستاذا واحدا لكل 7 تلامذة لكون احتساب نسبة المعلمين إلى التلامذة يجب ألّا يشمل من هم مكلفون أعمالا إدارية والمعلمين المتعاقدين على ساعة أو ساعتي تدريس في الأسبوع، فإنّ النسبة لا تتجاوز في كل الأحوال حتى لو قسمنا عدد التلامذة على ساعات التعاقد (أستاذ واحد لكل 11 تلميذاً) كحد أقصى. الأهم بالنسبة إلى التربويين أنّ الإعداد الفعلي للمعلمين في دور المعلمين توقف في العام الدراسي 2000 ــ2001، وما الدورات التدريبية التي خضع لها هؤلاء في السنوات اللاحقة في ما سمي «التدريب المستمر» سوى وجه آخر من أوجه الترقيع. ومع ذلك تُسمع في أوساط المعلمين مبررات من نوع: «لا نتحمل وزر التقصير في السياسات الرسمية، فكل ما فعلته الدولة هو تركنا في الشارع وعدم تدريبنا، بل إنّها زادتنا يأساً ولم تقدم ما يحفزنا على القيام بواجبنا التعليمي والإنساني تجاه تلامذتنا والتلامذة السوريين معاً».
السؤال الأبرز الذي يطرحه التربويون اليوم: ماذا قدمت الحكومة من حلول للمدرسة الرسمية؟ ولا سيما بعد لجوء اعداد هائلة من التلامذة السوريين، والاضطرار الى التعامل مع خلفيتين تربويتين مختلفتين، وتأثير ذلك على نوعية التعليم؟ الجواب لا يحتاج الى بحث مضنٍ: لا شيء سوى الامعان في ضرب المدرسة الرسمية ودورها.




يروي مصدر متابع للشأن التربوي أنّ تعليم التلامذة السوريين لم يخل من المتاجرة بهم. ويتجلى ذلك، كما يقولون، في ملامح عدة، منها لهاث كثيرين للمشاركة في بازار كتابة مناهج جديدة خاصة بهؤلاء التلامذة، عزوف بعض المديرين عن استقبال سوريين في دوام ما قبل الظهر، بحجة عدم وجود أماكن لهم، طمعاً في استفادة بعض المتعاقدين من دوام ما بعد الظهر المموّل من الجهات الدولية المانحة، فضلاً عن لجوء مديرين آخرين إلى زيادة عدد المعلمين الذين سيخضعون لتدريب على تعليم المنهج السوري. والسؤال الأكبر: ماذا سيتعلم المسجلون في دوام ما بعد الظهر، وخصوصاً أنّه مضى شهران على العام الدراسي، ولم تفتح المدارس بعد؟