غالبا ما يترافق الحديث عن القطاع المصرفي في لبنان مع الكثير من التعميم. المستفيدون من النظام القائم يكيلون المديح ويفرطون بتعظيم الدور الذي يؤديه هذا القطاع كرافعة للاقتصاد الوطني. وفي المقابل، تتشكل مجموعة من الناس التي ترى أن مصالحها الخاصة، او حتى العامة تتعارض مع طبيعة وبنية النظام الاقتصادي والمالي القائم.
هؤلاء بدورهم يغرقون في كيل الاتهامات والتعميمات عن الدور «التخريبي» للقطاع المالي على مجمل العملية الانتاجية.
لا بد من القيام بجولة ميدانية حول ميكانزيمات عمل القطاع المصرفي. جولة ترمي الى فهم طريقة عمل القطاع وتوجهاته. في هذه الجولة، سنكتفي بتحليل بعض الأرقام التي تنتجها جمعية المصارف اللبنانية، وتنشرها في تقاريرها السنوية.
يخبرنا تقرير عام 2012، في ملحقه الإحصائي أن التشغيل في القطاع لم ينمُ بأكثر من 6% بين عامي 2010 و2012. وبالمجمل يشغل القطاع حوالى 22637 فردا. أي ما نسبته 2.4% من مجمل العاملين في القطاع الخاص، البالغ عددهم نحو مليون عامل بحسب آخر إحصاء لمديرية الاحصاء المركزي (2009)، الا انه يسجل تراجع في تشغيل الشباب، الأقل من 25 سنة، بنحو 23% خلال السنوات الثلاث الأخيرة. يعزى ذلك الى مجموعة من العوامل، منها نوعية شروط التوظيف التي تعرض على الشباب اللبناني مقابل العروض المتوافرة في المؤسسات المالية في الدول الخليجية على سبيل المثال.
حصص المناطق من التسليفات أقل من مساهمتها في الودائع
أو بسبب تركيز البنوك على استقدام الخبرات المتوافرة أصلاً في القطاع او قطاعات مكمّلة. أما متوسط الأجور، فقد نما بنحو 16% بين عامي 2010 و2012، فيما نما الحد الأدنى للأجور بنحو 25%، للفترة نفسها. وبلغ حجم ارباح القطاع حوالى 2800 مليار ليرة عام 2012، دفع 14% منها كضرائب. وتمثل نسبة الأرباح هذه نحو 48% من إجمالي الدخل المحقق، فيما لا تتعدى كلفة الموارد البشرية (أجور + تقديمات أخرى) نحو 29%!
لتحليل التركّز في القطاع المصرفي، لا بد من التذكير بحصة البنوك العشرة الأكبر، التي تصل الى أكثر من 80% من مجموع الاصول والودائع، الا ان التركّز يمتد الى عوامل أخرى، منها على سبيل المثال الفجوة الجغرافية بين بيروت والمناطق، من حيث حصتها من الودائع وإجمالي التسليفات، ففيما تبلغ حصة بيروت وضواحيها نحو 69% من إجمالي الودائع، تصل حصتها الى 79.4% من إجمالي التسليفات. وبالتدقيق في حصص المناطق الأخرى يتبين أن حصة المناطق الأخرى من التسليفات أقل من مساهمتها في الودائع. بمعنى آخر يمكن القول ان الودائع التي تُجمع من المناطق تستخدم على نحو أساسي لزيادة التسليف في المركز. وهذا ما يساهم على نحو مهم في دعم نمو المركز (بيروت وضواحيها) على حساب المناطق الأكثر فقراً وتهميشاً في لبنان كالبقاع والشمال؛ والتي تبقى على هامش الأداء الاقتصادي للقطاع الأكثر مقدرة على تحريك عجلة النمو في هذه المناطق. بالتالي لا بد من التساؤل عن الدور الذي تؤديه البنوك في تحقيق نمو تضميني يحقق الرفاه لجميع اللبنانيين. وكيف يمكن تحسين بيئة الاعمال في المناطق اذا لم نرفع من حصتها من التسليفات.
بالنظر إلى بنية التسليفات، يتبين أن المستفيدين من القروض التي يقل حجمها عن 100 مليون ليرة لبنانية تبلغ نسبتهم حوالى 86% (نحو 371 الف مقترض) من المقترضين، فيما لا تزيد قيمة قروضهم عن حوالى 8000 مليار ليرة. وهؤلاء يمثلون صغار المقترضين الذين قد يستخدمون هذه الأموال لتشغيل المؤسسات الصغرى، أو للاستهلاك وتعويض النقص في المداخيل. أما المستفيدون من القروض التي تراوح قيمتها ما بين 100 مليون و500 مليون ليرة، وهم على الأرجح المستثمرون الذين يقيمون المنشآت المتوسطة، فتبلغ نسبتهم نحو11% من إجمالي المقترضين، وحصتهم نحو الـ13% من إجمالي قيمة القروض. المفارقة أن أقل من 2% من المقترضين تبلغ نسبة قروضهم نحو 71% من قيمة القروض. وهؤلاء يمثلون جمهور المستفيدين من القروض تبلغ أكثر من 1000 مليار. بالمحصلة يمكن القول إن القطاع المصرفي اللبناني لا يزال اليد التنفيذية الأساسية لاعادة انتاج تركّز الثروة وميزان القوى المهيمن نفسه. وتصبح الصورة أوضح اذا ما جرى الجمع بين المستويين السياسي والاقتصادي. أما البروباغندا عن دعم المنشآت الصغيرة والمتوسطة، والتي يمكنها ان تمثل رافعة للتشغيل اذا ما وضعت في اطار التنمية الاقتصادية والاجتماعية المتكاملة، فلا تزال على هامش السياسات الاقراضية للقطاع المصرفي.
يخبر تقرير جمعية المصارف أن القطاعات الاقتصادية الأكثر انتاجاً لفرص العمل كالزراعة والصناعة تستحوذ على الحصة الأقل من التسليفات، مع تسجيل جمود في حصتها على مدار السنوات الخمس الأخيرة، فيما تضخمت نسبة الاقراض للافراد من نحو 18% عام 2008 الى 26% عام 2012. هذا ما يدل على المنحى الذي تتخذه سياسات التسليف عند المصارف، التي تتجه نحو الاقراض الاستهلاكي على حساب الانتاجية. اللافت ان اقراض قطاعي التجارة والخدمات قد تراجع بدوره خلال الفترة نفسها.
قد لا يجوز تقديس او أبلسة القطاع المصرفي، إلا ان ما يمكن استنتاجه أن سياسات هذا القطاع أبعد ما يكون عن إرساء نموذج تنمية اقتصادية واجتماعية تضمينية. من الوهم مطالبة البنوك بالتحول الى أدوات لتحقيق العدالة الاجتماعية، فهذا ليس دورها، الا ان المطلوب هو الوصول الى إطار سياسات يدفع هذا القطاع الى الانخراط في عملية التنمية التضمينية مع المحافظة على هوامش أرباح منطقية. المعضلة أن إطارا كهذا يحتاج قبل كل شيء الى مؤسسات عامة متمكنة وذات رؤى تنموية استراتيجية. هذه المؤسسات لا نزال نبحث عنها في غياهب الفراغ السياسي والشلل الاقتصادي.