يطوي الحزب اللبناني، هذه الأيام، تسعة عقود على نشوئه. هو بذلك أقدم الأحزاب اللبنانية لجهة الاستمرارية على الأقل. حمل الحزب لحظة تأسيسه اسم «حزب الشعب اللبناني»، واتسمت بداياته (حوالى عشر سنوات) بأرجحية العنصر المحلي الوطني والتحرري العربي والقومي في برنامجه وأدبياته وعلاقاته وممارساته.
في طليعة المؤسسين، يبرز اسم الصحافي والمؤرخ الكبير يوسف ابراهيم يزبك والعامل والمناضل السياسي فؤاد الشمالي، اللبناني الذي كان يعمل في مصر وُنفي منها الى موطنه بسبب نشاطه السياسي ضد الانتداب الفرنسي!
بعد العشر الأولى، طرأت تحولات انعطافية على مسار الحزب فتم ربطه تباعاً بالمركز السوفياتي، وطغى الطابع الخارجي على سياساته وعلاقاته وقيادته التي اُقصي أو ابتعد معظم رموزها، وفي مقدمهم «المؤسس الفعلي العمالي» للحزب (كما يسميه محمد دكروب). «صمد» من بين أوائل المؤسسين أرتين مادويان أمين سر «شبيبة سبارتاك» الأرمنية الذي كان قد انضم الى الحزب الناشئ بعد حوالى سنة من تأسيسه (في بلدة «الحدث» في ضاحية بيروت) والذي ظل على علاقة تعاون مع بكداش حتى انفصال الحزبين. اقترن تغييب أو غياب المؤسسين بصعود خالد بكداش القيادي الشيوعي السوري القادم من «المدرسة الحزبية» في موسكو.
تمكن بكداش من السيطرة على الحزب من أواسط الثلاثينيات الى أواسط الستينيات (من القرن الماضي) حين انتفضت أكثرية الشيوعيين اللبنانيين على الاستتباع والفردية والتعسف والقمع وتغييب البرامج والعبث بالأصول والقواعد الحزبية والالتحاق الأعمى بالمركز السيوفياتي... وكرست ذلك في «المؤتمر الثاني» للحزب عام 1968. بداية الانتفاضة كانت في انفصال الحزب الشيوعي اللبناني عن نظيره السوري (سنة 1964) بعدما كانا حزباً واحداً طيلة أربعين عاماً.
مع انفصال الحزبين، طويت مرحلة «عبادة الفرد» والقمع واضطهاد المثقفين خصوصاً، والتي ابتدأت باتهام وإبعاد فؤاد الشمالي، وانتهت باتهام وإبعاد فرج الله الحلو. الشمالي والحلو هما أبرز وأهم شخصيات الحزب الشيوعي اللبناني لجهة الريادة والإصرار على اشتقاق البرامج المستمدة من حاجات تطور وتحرر بلادنا وشعوبنا. لا يقلل ذلك من قامات وأدوار أخرى لمعت في حقول السياسة والفكر والعمل النقابي والإعلامي والشبابي، كما في ميادين المقاومة ضد العدو الصهيوني بشكل خاص...
أطلق مؤتمر عام 1968 مسيرة واعدة للحزب في جميع الحقول. ساعدت خلاصاته السياسية والتقويمية النقدية وحيوية قيادته الشابة آنذاك، في توسيع تأثيره وصفوفه، وخصوصاً في الجيل الشاب، فيما كان يوطِّد مواقعه النقابية في المدينة والريف، وينجح في جذب أعداد مميزة من المثقفين والمبدعين وفي تطوير وسائل إعلامه التي احتلت موقعاً تنافسياً قوياً رغم الملاحقة والحصار وتواضع الإمكانيات. وفي مجرى ذلك، اجتهد الحزب في المساهمة ببناء صيغة جبهوية لعبت دوراً كبيراً في الحياة السياسية اللبنانية (في السبعينيات) بالشراكة، وخصوصاً، مع الحزب التقدمي الاشتراكي وقائده الشهيد الوطني الكبير كمال جنبلاط.
يحتاج الحزب لكي يعاود
النهوض إلى ورشة إعادة تأسيس كاملة

أصاب انهيار الاتحاد السوفياتي، وقبله الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1989) الحزب بارتباك عميق لم يشف منه بسبب ما أفضى إليه هذان الحدثان الانعطافيان من تحديات لم يتمكن الحزب من مواجهتها بشكل سريع وكاف: تحدي المراجعة العميقة، وصولاً الى إعادة التأسيس ارتباطاً بالمتغيرات والمستجدات والحاجات. دار صراع ضار في الحزب حول شكل الاستمرارية: إذا غضضنا النظر عن حالات التخلي واليأس والانكفاء أو التبديل (نحو اليمين عموماً)، اقتصر الصراع «التأسيسي» داخل الحزب على فئتين: فئة مجدِّدة طالبت بالتغيير وعملت من أجل إحداثه ولو بشكل تدريجي، وفئة وجدت في استعادة «البكداشية»، التي ما زالت حاضرة في بعض أقسام الحزب الشيوعي السوري، سبيلاًً الى مواجهة التحديات والمتغيرات. والبكداشية هي رمز أزلي (بكداش استمر أمينا عاماً حوالى ستين سنة وخلفته زوجته ثم نجله) لإنكار وجود أخطاء واختلالات في التجربة السوفياتية، واعتبار انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته، فقط ، ثمرة خيانة أفراد في الداخل وتآمر إمبريالي من الخارج.
استخدمت المجموعة البكداشية في الحزب الوسائل «التقليدية» من أجل الإمساك، تباعاً، بمواقعه القيادية: التكتل، التآمر، الغدر، العصبية العمياء، ادعاء الحرص على المؤسسة، التشهير بالديموقراطية بوصفها أحد اسباب الانهيار (وليس بوصف غيابها هو أحد أبرز هذه الأسباب)... استغلت الصراع السياسي الذي اندلع في الحزب حول موقعه وتحالفاته ومواقفه من الانقسام في لبنان والمنطقة (بعد الغزو الأميركي للعراق خصوصاً) لتركز على تحقيق مكاسب تنظيمية ذات طابع تكتلي وبوسائل ملتوية وغير شريفة...
اجتهدت القيادة الانقلابية منذ تمكنها أول عام 2004، في إقفال باب النقاش حول التجديد. برمجت التراجع عن بعض الإجراءات الإصلاحية في مجال صياغة برنامج مرحلي لمعالجة الأزمة اللبنانية وبناء موقع جبهوي سياسي وطني مستقل، واستبدلت ذلك بالإكثار من تكرار شعارات اليسار والشيوعية على طريقة «الإسلام هو الحل». كذلك ألغت تدابير تنظيمية من نوع فصل السلطات (ألغت فعلياً الهيئة القضائية بالضغوط المختلفة)، ومرجعية الهيئات في اتخاذ القرارات ودورية المؤتمرات وحق النقد والنقاش، وصولاً الى تعطيل البند المتعلق بمهل تولي المسؤوليات التي يحتال الأمين الحالي بالتأجيل وبالمناورة، من أجل إلغائه بما هو أحد الشروط الضرورية لتأمين تداول السلطة ولمشاركة الشباب في قيادة عمل الحزب، ولتسهيل الرقابة الوقائية وللقطع مع مرض عضال أصاب الكثير من التنظيمات الشيوعية والدولة الاشتراكية: مسار التأبيد والتوريث والقمع...
عادت القيادة الانقلابية (منذ 11 سنة) بالحزب الى الوراء عوض أن تتقدم به الى الأمام. لا شاغل ولا شغل لها سوى التمديد ولو بأقذر الأساليب: الكذب والافتراء وقرارات الفصل ومنع الانتقاد وتعطيل الهيئات، وصولاً الى تعطيل الحزب جميعاً...
في رصيد الحزب الكثير: نشر الفكر الاشتراكي، تأسيس النقابات، مقاومة الانتداب، تقديم تجربة نضالية نقابية كبيرة في صفوف الشباب، مساهمات إعلامية وجبهوية ريادية، المساهمة الفذة في إطلاق المقاومة ضد العدو الصهيوني، استخدام المراجعة النقدية سبيلاً الى تصحيح المواقف...
لكن في سجله أيضاً إخفاقات وصفحات سوداء أسست لها الحقبة البكداشية الستالينية التي تتجدد اليوم بشكل مأساة تكاد تحوّل عرس تأسيسه إلى جنازة!
يحتاج الحزب الشيوعي، لكي يعاود النهوض والتعافي، إلى ورشة إعادة تأسيس كاملة، بدءاً من تحديد وبلورة موقعه ومشروعه الوطني الديموقراطي والتحرري في المديين اللبناني والعربي، مروراً بتكريس الديموقراطية في هيكله التنظيمي وفي علاقاته الداخلية والخارجية، وصولاً إلى انخراطه الكامل في النضال السياسي والجماهيري ضد المستعمرين والمغتصبين والمستبدين والمستغلين والظلاميين القتلة... لن يحصل ذلك أبداً ما دام شبه مصادَر أو مخطوف من قبل القيادة الحالية. التسعيني لكي يستمر يحتاج إلى بعض نبض الشباب قبل أي أمر آخر!
* كاتب وسياسي لبناني