الشهرة لا تتلازم مع الكفاءة والفذاذة في عالمنا العربي. العلاقات العامّة ترفع من شأن كتّاب ومشعوذين وتغمط حق مبدعين ومبدعات. يظهر مشعوذ على برنامج «كلام النّاس» وفق معايير غير علميّة بتاتاً ويُسوّق له مارسيل غانم على أنه «مُكتشف» لدواء للسرطان، أو أنه فذّ متنوّع الفذاذة وعلى وشك الحصول على جائزة نوبل وأوسكار في آن. هناك علماء عرب حقيقيّون في الغرب، وهناك مُن لم يسمع بهم لأنه ليس هناك جهاز علاقات عامّة لهم، ولا يكترثون للشهرة.

واحد من هؤلاء العلماء الأفذاذ يدرّس في كليّة الطب في جامعة هارفرد وتتنازعه كليّات الطبّ حول العالم، وعندما أحاول أن أقنعه بالخضوع لمقالة عنه في جريدة في لبنان ينفر. هو منكبّ على عمله البحثي ولا يكترث للصغائر.
حنّا بطاطو من هؤلاء. قلّة سمعت به، وهم في أغلبهم من المتخصّصين والمتخصّصات. لم يُكرّم بطاطو في لبنان أو في فلسطين، ربّما لأن التكريم المنتظم في لبنان من قبل ميشال سليمان كان يتركّزعلى سفير أو سفيرة من الدولة الراعية لإرهاب العدوّ الإسرائيلي. لكن ميشال سليمان حالة خاصّة من الترفّع عن المال النفطي. حنّا بطاطو فلسطيني من مواليد القدس. رحل إلى أميركا في عام النكبة ودرَس في جامعة جورجتاون في واشنطن لشهادة البكالوريوس، ونال بعد تخرّجه جائزة تُعطى للمتفوّق الأوّل في الدراسة. بعد جورجتاون، درس بطاطو في جامعة هارفرد ونال في عام 1960 شهادة الدكتوراه في «السياسة» (لا يزال قسم «السياسة» في جامعة هارفرد وجورجتاون وبعض الجامعات القديمة التأسيس يُسمّى «الحكومة» أو «الحكم» لأن التدريس القديم للمادّة كان يتخصّص في درس السياسة في عدد من الحكومات الغربيّة فقط، وكانت المعارضات والأحزاب والثورات لا تدخل ضمن سياق الدرس). كان عنوان أطروحته «الشيخ والفلاّح في العراق، 1917-1958».
كانت مرحلة الدراسة في هارفرد غنيّة جدّاً لبطاطو، حسبما حدّثني عنها. كان زميله في الدراسة، في القسم نفسه، عربيّ آخر من دمشق، هو يوسف إيبش، الذي تخصّص في الإسلاميّات على يد المُستشرق هاملتون غب، الذي كان أوّل مدير لمركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة هارفرد. كانت صداقة بطاطو وإيبش غير مألوفة لأن الشخصيّتين مختلفتان جذريّاً. كان بطاطو راهباً في الحياة، فيما كان إيبش مُحبّاً ومُتمتّعاً بالحياة. كان إيبش مُحافظاً سياسيّاً (كنتُ دوماً أتعارك معه - كلاميّاً - في الصف في الجامعة حول ثنائه على تجربة المملكة العربيّة السعوديّة، لكنّه كان متقبّلاً للخلاف ويُحسن النكتة للتخفيف عن حالة التوتّر التي كانت تسود في الصفّ أحياناً) ومتحرّراً اجتماعيّاً، فيما كان بطاطو يساريّاً جذريّاً في الفكر، لكنه محافظ في المسلك الحياتي الاجتماعي. كان بطاطو يحدّثني عن شخصيّة إيبش بإعجاب، ربّما لأنه رأى فيه نقيض شخصيّته. كان يقول فيه مُعجباً: هو راوية من الطراز الأوّل وله دائماً الكثير من القصص والأخبار المُسليّة.
من حظّ بطاطو أن
المفكّر هربرت مركوزه
كان أستاذاً زائراً أثناء
سنوات دراسته

رجع بطاطو (كما رجع إيبش) إلى الجامعة الأميركيّة ودرّس هناك بين سنوات 1962 و1982، عندما التحق بجامعة جورجتاون. وسمعتُ لأوّل مرّة باسم بطاطو لدى دخولي إلى الجامعة الأميركيّة من رفاق يساريّين كانوا مشغولين دوماً بمتابعة كتاباته وأخباره (وكانت كتاباته قليلة جدّاً قبل صدور كتابه الموسوعي عن العراق في سنة 1979). كان معظم ما كان يتداوله اليساريّون في الجامعة عن بطاطو بعيداً عن الحقيقة. كان يُقال مثلاً إنه قضى سنوات في السجن في العراق بسبب نشاطاته الشيوعيّة، وكان يُقال إنه أسّس أكثر من منظمة شيوعيّة في أكثر من بلد عربي. كل ذلك كان غير صحيح. لم يكن لبطاطو أي تجربة سياسيّة من أي نوع (كما اكتشفتُ بعد ذلك). هو قضى وقتاً طويلاً في العراق يدرس أرشيف الشرطة العراقيّة لتجميع معلومات عن الشيوعيّين وعن البعث وعن غيرهم من التنظيمات، لكن لم يكن عضواً في أي تنظيم. كان لبطاطو حشريّة سياسيّة عميقة لمعرفة تجارب الآخرين السياسيّة، لكنه لم ينضمّ إلى تنظيم. كان كمن يعيش نظريّاً في تجارب الآخرين. سألني كثيراً عن مختلف الأحزاب اليساريّة في لبنان والتي كان يتابع بعضها عن بعد.
تبلورت شيوعيّة بطاطو، كما أخبرني في ما بعد، في جامعة هارفرد. من حظّ بطاطو أن المفكّر اليساري المُستقلّ، هربرت مركوزه، كان أستاذاً زائراً أثناء سنوات دراسته. قال بطاطو إن ماركوزه عرّف عن نفسه له بأنه «ماركسي مستقلّ» وهكذا كان بطاطو. لكن بطاطو اهتمّ بالتجربة السوفياتيّة وكانت دراسة الاتحاد السوفياتي تخصّصه الثانوي (وقد فعلتُ أنا الشيء نفسه، لكني لم أدرس اللغة الروسيّة التي درسها بطاطو). وتأثّرت نظرة بطاطو إلى الاتحاد السوفياتي بنظرة أستاذ آخر هناك، هو بارنغتون مور جونيور (مؤلّف كتاب «الجذور الاجتماعيّة للديموقراطيّة والديكتاتوريّة»). كما تأثّر بطاطو بماركسي مستقلّ آخر، أعني عالم الاجتماع الأميركي، سي. رايت ميلز، صاحب مؤلّف «نخبة السلطة» المعروف. لم يمشِ بطاطو في تظاهرات ولم يوقّع على عرائض ولم يشارك في اجتماعات سياسيّة. ضايقني ذلك فيه عندما عرفته عن كثب في جامعة جورجتاون، لكن سرعان ما أدركت أن ذلك لم يكن من طبعه. عندما انطلقت ظاهرة المقاومة الفلسطينيّة اهتمّ بها بطاطو كثيراً، من منظور سياسي وأكاديمي وقد قضى وقتاً (ساعات طوالاً) في قواعد عسكريّة للجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين في أوّل انطلاقتها وكان يشجّع المقاتلين.
تساءل كثيرون عن سبب ترك بطاطو عمله المخطوط عن العراق لسنوات طويلة قبل أن يصدر كتابه في عام 1979، بعد نحو عشرين سنة على أطروحته عن العراق. أسرّ لي يوماً أن السبب كان عاطفيّاً: هال بطاطو المجازر التي قادها البعثيّون ضد الشيوعيّين في العراق، وترك ذلك أثرأً عميقاً فيه. قال لي إنه كان يجد صعوبة في العودة إلى أوراقه وتدويناته.
التقيتُ بطاطو للمرّة الأولى في السنة الدراسية الجامعية الثانية في بيروت. كنتُ أعدّ ورقة بحثيّة عن حلّ الحزب الشيوعي المصري في الحقبة الناصريّة، فقابلته لأسأله رأيه. كانت إجابته مُعبّرة عن هذه الشخصيّة الحريصة والدقيقة. قال لي بالحرف: «لم أعر الحزب الشيوعي المصري الاهتمام الكافي في دراساتي»، وفي القاموس البطاطوي تعني هذه الجملة أنه يعرف الكثير، لكن ليس إلى الدرجة التي تسمح له بالحديث في الموضوع. كان لا يتحدّث في موضوع ولا يكتب عنه إلا بعد أن يلمّ بكل جوانب الموضوع وبعد أن يجمع كل ما كُتب أو نشر عنه. وكان يجري الكثير من المقابلات الشخصيّة حتى إن علاقاته الاجتماعيّة كانت أشبه بدراسة ميدانيّة. كان يريد أن يعرف طائفة ومسقط رأس كل تلميذ عربي يقابله لأنه كان يصنّف الفرد وقف تصنيفات دراسته عن الشيوعيّين والبعثيّين في العراق. أذكر ان ابن شقيق هاني الهندي، قال لي مرّة إنه يرغب في لقاء بطاطو بعدما سمع عنه الكثير. اصطحبته للقاء بطاطو، فهمّ الأخير بفتح صفحة جديدة من دفتر أصفر، وطفق يسأله السؤال تلو الآخر ويدوّن إجاباته. كان كل لقاء مشروع مادّة لمراجع وتوثيق في كتاباته.
دراسة بطاطو عن العراق لم تكن عاديّة. أحاط بكل التاريخ المعاصر للعراق. لكنه أوفى الموضوع حقّه على طريقته، بخلاف كتابه عن سوريا الذي سارع إلى إنهائه قبل نضوجه، وفق ما كان هو يقرّر له من سعة وموسوعيّة. نال بطاطو شهادة الدكتوراه في العلوم السياسيّة، لكنه لم يكن يعتبر نفسه عالم سياسة أبداً. كان ينبذ حقل العلوم السياسيّة. كان يقول إنه «مؤرّخ اجتماعي» (اجتماعي بالمعنى الطبقي للكلمة). وكان تاريخ الطبقات الدنيا هو الأساس في دراسته. أذكر أنه عندما بدأ بدارسة التاريخ الاجتماعي لسوريا، تذمّر لخلوّ المراجع من معلومات عن الطبقات الدنيا. قال إن كتاب «حوادث دمشق اليوميّة» لأحمد البديري الحلاّق هو الوحيد الذي أشار إلى الفقراء بين كلّ المراجع. كان بطاطو (كما ظهر جليّاً في كتابه عن «الطبقات الاجتماعيّة القديمة» في العراق) يعنى بتحوّل الطبقة من «طبقة في ذاتها» إلى «طبقة لذاتها» ولهذا لم تكن كتاباته تروق الماركسيّين التقليديّين البكداشيّين العرب. لم يستهن بطاطو على طريقة التأريخ السوفياتي بالوعي الطائفي والمحلّي بين الفقراء والعمّال والفلاّحين. أذكر أنني في حصّة عن «سوريا: المجتمع والدولة» كنتُ أقدّم عرضاً لموضوع «المعارضة السوريّة العلنيّة والسريّة في عهد حافظ الأسد». ودار نقاش في الصف أجبتُ فيه عن سؤال بتعميم عن الشعب السوري. قاطعني بطاطو وسألني: هل تستطيع أن تذكر مرّة واحدة تحرّك فيها الشعب السوري برمّته ككتلة متراصّة؟ أخرسني سؤاله.
درس بطاطو البعث في تجربتيه، ولم يكن يكنّ أي إعجاب بالبعثيين. على العكس، كان يستفظع التجربة البعثيّة في الحكم. وهناك من أساء فهم تقويم بطاطو لشخص حافظ الأسد، وقال إن بطاطو كان مُعجباً بحافظ الأسد. على العكس تماماً: صحيح أنه كان معجباً بعقل حافظ الأسد وفي إدارته («الماهرة جدّاً»، حسب وصفه) للعلاقة مع الولايات المتحدة، وكان مهتمّاً بدراسة شخصيّته (وأذكر كم سرّه عندما عرّفته على كتاب كريم بقرادوني عن حافظ الأسد والسياسة السوريّة، ورفض بأدب شديد أن يرجعه لي، لكني طلبتُ منه مقابل احتفاظه بالكتاب أن يهديني كتابه المقبل - نسي أن يفعل، بالمناسبة). لكنه كان كلّما تحدّث عن حافظ الأسد، يضيف ضاحكاً: لو أنه استعمل عقله للخير، لا للشرّ (بالإنكليزيّة). وكان يسعى لأن يقابله (ليدرس شخصيّته) وطلب منّي ذات مرّة أن أعينه في صياغة رسالة كان يريد أن يرسلها إلى حافظ الأسد لطلب مقابلة.
كان بطاطو شديد المعارضة أيضاً للنظام العراقي، وكان يلقي المحاضرات عن طبيعة النظام العراقي في الثمانينيات عندما كان النظام يحظى بموقع مرموق في السياسة الخارجيّة الأميركيّة. وكان العراق يرعى عدداً من التجمّعات والجمعيّات العربيّة في مدينة واشنطن، على غرار ما فعلته أنظمة الخليج بعد 1990. وفي مؤتمر لجمعيّة خرّيجي الجامعات العرب - الأميركيّين، لاحق واحد من أتباع النظام الصدّامي بطاطو بعد إلقاء محاضرته وكان يقف في وجهه ويلتقط صوراً له كي يخيفه. أذكر أننا رافقناه حتى السيّارة ذلك اليوم. لكن بطاطو جازف وزار العراق (في الثمانينيات) بالرغم من مخاوفنا من عقاب النظام له. وقال إنه كان مُراقَباً هناك خلال الزيارة، لكن المراقبة لم تكن ليليّة فكان يترك مكان إقامته ويزور معارفه من المعارضين ليلاً. وروى أن واحداً من العراقيّين قال له إنه قرأ كتابه. فسأله بطاطو: وكيف تسنّى لك قراءة كتابي وهو ممنوع هنا؟ أجابه: لقد استعرتُ نسخة فاضل البرّاك.
كان بطاطو جمّ التواضع والتهذيب، مع الكثير من الخجل الاجتماعي في شخصيّته، وخصوصاً في المناسبات الرسميّة في الجامعة. كان يعيش على مسافة ساعة بالسيّارة من مكتبه في جامعة جورجتاون (كان بطاطو قد تلقّى عرضاً من جامعة جورجتاون وآخر من جامعة بنسلفانيا بعد خروجه من بيروت، لكن اللوبي الصهيوني عارض ذلك بشدّة في بنسلفانيا ولم يحصل على المنصب). كان يعيش زاهداً وحيداً مع أمّه (حتى وفاتها)، منفصلاً عمّا يُعتبر مباهج الحياة وبريقها المادّي لتكريس نفسه للعمل الجاد والدؤوب على طريقة النسّاك أو مجتهدي النجف الأقدمين. روى لي زميله، أستاذي مايكل هدسون، أنه حاول مع زوجته السعي إلى تزويج بطاطو، لكنهما لم يفلحا. كانت حياته مُكرّسة للبحث من دون توقّف. (لم يجرؤ واحد منا على استفساره عن الحب في حياته، إلا إبراهيم العلي، الذي استحصل على معلومة عن قصّة حب قديمة ربطته بتلميذة في الجامعة الأميركيّة في بيروت من عائلة ثريّة في الأردن، لكن أهلها لم يعتبروا بطاطو «قدّ المقام»).
لم أختر بطاطو كي يشرف على أطروحتي، وإن كان عضواً في اللجنة المُشرفة (والسبب أنه كان يسكن بعيداً عن الجامعة، ما كان سيعيق عمليّة إكمال الأطروحة). لكنه أفادني بنقده دوماً (وكان يحرص حتى - وأنا القادم حديثاً من لبنان - على تصحيح لكنتي في بعض الكلمات الأميركيّة، ربما حماية لي من هزء قد أتعرّض له)، وقال لي بعدما قرأ الأطروحة جملة (لا تُترجم إلى العربيّة بتاتاً): «ارتكبْ خطأ التقدير الأقلّ أكثر مِن المبالغة في التقدير». كان شديد الاهتمام بشؤون الشيعة في العالم العربي (وأنا مصنّف حسب استماراته البحثيّة على أنني «شيعي من جنوب لبنان»)، وكنتُ أشتبه بأن الموضوع مشروع كتاب يكتمل في عقله. حتى في مناقشة الأطروحة عن «الانشطارات في المجتمع اللبناني»، أكثر من الأسئلة المُستفسرة عن الشيعة في لبنان، وأذكر أنه سألني حينها عن عبد الأمير قبلان، فيما نظر العضوان الأميركيّان في اللجنة باستغراب. تنحنح رئيس اللجنة، العزيز مايكل هدسن، كي تسرع المناقشة. كان دوماً حريصاً في انتقاء المفردات والمصطلحات والتعبير في حديثه وفي محاضراته. لا أذكر أنه ارتجل محاضرة يوماً ما، بل كان يكتبها بعناية فائقة ويقرأها بعناية فائقة تشدّ السامع والسامعة لشدّة ذكائه وعمق أفكاره.
لم يكن التعليم هوى بطاطو. كان الرجل أصلح للإشراف على فريق باحثين وباحثات في مركز أبحاث يعمل وفق منهجه في دراسة الطبقات وتاريخها في العالم العربي. لكن التعليم كان ضرورة من ضرورات العمل، بالنسبة إليه. لكن ذلك أصبح مستحيلاً بعد الحرب على العراق في عام 1991. سبّبت تلك الحرب أزمة نفسيّة له، وللكثيرين من العرب الأميركيّين. ضاق ذرعاً بصفوف التعليم، وأصبحت تعليقاته على أوراق التلاميذ قاسية وجارحة، ولم يكن هذا ديدنه (صارحتني تلميذة سابقة لي في جورجتاون، بأن ملاحظات بطاطو العلنيّة على ورقتها في الصف أبكتها أمام الجميع). بات يتطلّع في وجوه التلاميذ ويتساءل إذا ما كان أي منهم سيخدم أعداء العرب. أذكر مرّة انني كنتُ في مكتبه وتلقّى اتصالاً من مسؤول في منظمة العفو الدوليّة. كان قد أصدر مقالة مفصّلة عن النخبة الحاكمة في سوريا وأراد المسؤول الاستزادة. رفض بطاطو الحديث معه. قال لي بعدما اقفل الهاتف: كيف أعرف أنه لا يخدم «الموساد»؟
يتعجّب البعض من أن سياسة بطاطو العربيّة لم تكن قريبة من الأحزاب الشيوعيّة التي كان شديد الانتقاد لها. كان أقرب إلى الناصريّة، وازدادت قوميّته العربيّة شدّة عبر السنوات. كان شديد الإعجاب بعبد الناصر ويشيد بتجربته في التعاطي مع الغرب وفي بناء اقتصاد صناعي قوي. كما أنه كان معجباً بالمضمون التقدّمي للبرنامج الناصري، وكان كلّما يستفيض في مديح عبد الناصر أقول له: لكن، ماذا عن الحريّات الديموقراطيّة في عهده وعن وضع الشيوعيّين؟ فكان يهزّ برأسه موافقاً. أما في القضيّة الفلسطينيّة، فلقد فاجأني (وأزعجني صراحة) اعتدال بطاطو: كان مؤيّداً لاعتدال ياسر عرفات، وكان يقبل بـ(لا) حلّ الدولتين، على الأقل على المدى القريب. ومرّة في أحد الصفوف، قال ما معناه إن على العرب استغلال الفارق بين الموقف الأميركي والموقف الإسرائيلي. صحتُ من مقعدي: وهل هناك فارق أساساً؟ أجاب: إن هناك فارقاً ولو كان ضئيلاً. لم نتفق في هذا. كان يريد تسريعاً في ما رآه حلّاً للقضيّة الفلسطينيّة التي تابعها عن كثب.
مرّة ألقى محاضرة في الصف عن القضيّة الفلسطينيّة في مادة «المجتمع والدولة في العالم العربي» كانت مذهلة. عرض بعد المحاضرة أن يوصلني إلى منزلي. في الطريق في سيّارته الـ«فولكسفاكن الخنفساء»، سألتُه: بعدما استمعتُ إليك هذا المساء، أتساءل: لماذا لم تكتب عن القضيّة الفلسطينيّة؟ أجابني، بالحرف: لأن هناك من يكتب عنها وهو أعلم منّي فيها. لو قال لي هذا الكلام واحد غيره، لقلتُ إنه يتذرّع، لكن بطاطو كان صادقاً في قوله. ولم يكن مثل آخرين من الأكاديميّين العرب يقبل التواصل والتعاطي مع أكاديميّين إسرائيليّين (الجندي الإسرائيلي السابق في جنوب لبنان، آشر كوفمان، يشكر في مستهلّ كتابه «اكتشاف فينيقيا» صادق جلال العظم لمساعدته الجمّة للمؤلّف الذي شارك في اجتياح لبنان عام 1982).
لا يعلم كثيرون أن بطاطو كان مهتماً جداً، أيضاً، بالشأن السعودي، وكان يعلّم مادة عن «المجتمع والدولة» في المملكة السعوديّة. وأجزم بأن كتاباً عن السعوديّة كان سيلي كتابه المُزمع عن سوريا، لو أن الحياة طالت به. وعندما دعي بندر بن سلطان ذات مرّة لإلقاء محاضرة في الجامعة، طُلب من بطاطو بحكم خبرته في الشأن السعودي تقديمه. أذكر أنني شعرتُ بقلق: خفتُ أن يقول بطاطو كلمة في التقديم قد يندم عليها. وقف بطاطو، فيما جلس بندر كالطاووس في كرسي وثير في أكبر قاعة في أقدم مبنى في الجامعة، وقال: إن الخطيب اليوم غنيّ عن التعريف، واكتفى بذلك.
كان بطاطو يعدّ دراسة موسوعيّة من خمسة أجزاء عن سوريا، لكن لم يتسنّ له ذلك بسبب الأزمة الصحيّة والنفسيّة التي أصابته. لم يقوَ على الاستمرار بعد الحرب الأميركيّة في العراق، والحصار الخانق الذي فُرض على بلد عزيز له. كان يحتلّ «كرسي» أكاديمي مموّل من وزير الدفاع الكويتي. اتصل به وزير التربية السابق، حسن الإبراهيم، وطلب منه أن يصدرَ بياناً يدين فيه الاجتياح العراقي للكويت. طبعاً، رفض بطاطو طلبه وأجابه: لو كنتُ سأصدر بياناً، كنتُ سأدين فيه التحالف الكويتي مع أعداء العرب، أو أي كلام من هذا القبيل. تعرّضت جامعة جورجتاون لضغوط ماليّة من قبل حكومة الكويت بسبب ذلك.
إن كتابَيْ بطاطو عن العراق وسوريا مترجمان إلى العربيّة (وقد أشرف إلى حدّ على الترجمة العربيّة للكتاب عن العراق). وعلى قرّاء العربيّة من الذين يجهلون بطاطو أن يعلموا عنه. الفذ الفلسطيني لم يكن رجل علاقات عامّة أو ترويج ذاتي. كان همّه همّين: همّ الأمّة العربيّة (التي آمن بها ربّما نكاية بكل الذين يفضّلون تكتّلات العشائر والقبائل والسلالات والطوائف والمذاهب على التكتّلات العلمانيّة الحديثة)، وهمّ البحث العلمي الذي شغله.
أحياناً أشعر بضيق أنه لم يتسنّ لكلّ الشعب العربي معرفة حنّا بطاطو، والإعجاب به، كما أعجبت به كل هذه السنوات. لكن ما زاد من أسى رحيله أنه مات في الغربة، ودُفن في ولاية كنكتكت لا في القدس. لكن لم يمتدّ العمر ببطاطو ليشهد ما حلّ بالعراق بعد رحيله. لم يكن يقوَ على المتابعة المرّة. أنصفه القدر في ذلك فقط.
* كاتب عربي
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)