لم يكن أمراً عابراً ان تنقل الشاشات المحلية جنازة الجندي الشاب جمال جان الهاشم. ليس فعل الاستشهاد هو ما جعل الاعلام التلفزيوني يبث وقائع الجنازة من بلدة القبيات العكارية، إذ سبق ان سقط للجيش شهداء لم يُنقل وداعهم الاخير على الهواء مباشرة. بدا أن التعاطي الاعلامي والتفاعل مع جنازة ابن الأعوام التسعة عشر، يعكسان الخوف على المسيحيين في بعض المناطق، واختصرته جنازة الهاشم كشاب مسيحي من القبيات، لا كجندي شاب استشهد غدراً.يعيد الخوف على المسيحيين الى الكلام عن حال الاقليات، بعيداً عن الشعارات وعن استحضار لازمة «تحالف الاقليات».
وعلى قلة النقاشات الفكرية داخل الطائفة المارونية، التي تحولت في بعض اوجهها إلى حالة اجتماعية، ثمة من يقرأ في واقع المجموعات الطائفية في لبنان والمنطقة، الذي يشهد متغيرات متقدمة يُفترض الكلام عنها بتسمية المجموعات بأسمائها، بعدما غلبت العصبيات الطائفية على كل ما عداها: الدروز والمسيحيون والسنة والشيعة والعلويون.

مع انفلاش الحرب السورية وتكاثر العوامل المؤثرة فيها، في ظل تمدّد «الدولة الاسلامية» وتوسع مناطق نفوذها، لم يعد الكلام ينحصر فقط بمستقبل النظام السوري او بحكم الرئيس بشار الاسد، ولا حكماً بحزب البعث. ولم يعد سراً ان الطائفة العلوية تتعرض للاستنزاف منذ اكثر من ثلاثة أعوام من الحرب. ففي الشكل، تبدو المناطق الساحلية ذات الاكثرية السكانية العلوية محمية من الداخل وعلى الحدود التي تفصلها عن باقي المناطق السنية، وهي بعيدة عن مجريات الحرب التي تتوسع شرقاً وجنوباً، لكن الثمن الذي تدفعه الطائفة العلوية يعرّضها كل يوم يتأخر فيه الحل السياسي للاستنزاف أكثر فأكثر، مع ارتفاع عدد القتلى من الجنود والمدنيين.
العلويون تعلموا من
خطأ الموارنة فلم يتخلوا عن السلطة ولم يترك الأسد الحكم


في المقابل، تخضع المناطق السنية لحكم كل انواع المجموعات المسلحة من «الجيش الحر» الى التنظيمات «الجهادية» و«الجبهة الاسلامية» و«النصرة» و«داعش». وهي تدفع، أيضاً، كل يوم ثمن الحرب ضحايا بالآلاف، لكن الخطورة الحالية تكمن في ان هذه المجموعات السنية انتقلت من الدفاع الى الهجوم، كما فعلت «داعش» أولاً، ومن ثم باقي المجموعات مع بدء القصف الجوي للتحالف الاميركي ــــ الخليجي، فيما تحوّلت المناطق العلوية والجيش النظامي الى خط دفاع في غالب الاحيان. والامر نفسه بدأ ينسحب على حزب الله في سوريا والمناطق الشيعية في البقاع، التي تحولت بفعل الضغط الذي تمارسه «النصرة» و«داعش» الى مناطق تستشرس في الدفاع عن نفسها.
هذان التحوّلان اللذان شهدتهما الاشهر الاخيرة يجعلان من الضروري اعادة قراءة المخاطر التي يمكن ان تهدد الطائفتين العلوية والشيعية في ظل حرب الاستنزاف التي بدأتا تغرقان فيها مع استمرار ضغط المجموعات الاصولية وكافة التنظيمات السنية الاخرى، مع احتمال ان تطول مدتها فتنهك الطرفين.
ففي لبنان، نعرف تماماً معنى حرب الاستنزاف التي رفعت فيها شعارات كثيرة، وانتهت باستنزاف للطوائف، تجسدت في شكل جلي في حرب الجبل. وبصرف النظر عما أفضت اليه في حينه من غالب ومغلوب، الا انها انهكت طائفتين اساسيتين ساهمتا في تكوين لبنان، هما الموارنة والدروز، فيما كانت تشهد تلك المرحلة صعوداً مطرداً للقوة الشيعية.
انكفأ الدروز، مهما كان نوع انتصارهم عام 1983، الى منطقة مغلقة، يعرف رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، اليوم، مدى خطورتها، وما معنى الا يكون له ظهر يحميه فيضطر الى القيام بجولة على حدود الشوف وعاليه والاقليم لتحييد الاقلية الدرزية، كما يدرك الدروز اليوم حجم الخطأ الذي ارتكبوه في حرب الجبل، حين هجّروا المسيحيين، وحين لم يعد هؤلاء الى الجبل رغم المصالحة التي جرت برعاية البطريرك الماروني مارنصرالله بطرس صفير. يتعدى حجم الخوف الذي يبديه جنبلاط من المرحلة المقبلة، تدويره الزوايا وكلامه عن احقية وجود «النصرة» و«داعش» في الحلول السياسية وتأكيده اسلمة الموحدين الدروز. تكفي رؤية المشهد الجنبلاطي في قلب تجمّع عرب خلده، بعد نحو شهرين على اشتباكات السويداء بين الدروز والبدو، ليدرك متابعو حركة جنبلاط ان الدفاع عن دروز السويداء يبدأ من لبنان، لا العكس.
عام 1983 شهد ايضاً تقوقع الموارنة داخل «مناطقهم» ليتعرضوا لحرب استنزاف داخلية وخارجية. لكنهم تصرفوا على انهم منتصرون في الحرب، فضاعفوا اخطاءهم ما جعلهم يصلون عام 1988 الى اول شغور رئاسي.
بعد 25 عاماً على اتفاق الطائف، تتبين اليوم خطورة عدم انتخاب رئيس للجمهورية، ليس لناحية الاتفاق كضرورة حتمية حينها لانهاء الحرب، وكخشبة خلاص للمسيحيين اليوم، وانما لناحية بعض الاصلاحات التي لم تكن لتمر لو سهّل المسيحيون آنذاك انتخاب رئيس للجمهورية، ولو لم يسلم الرئيس امين الجميل يومها السلطة للحكومة الانتقالية برئاسة العماد ميشال عون.
تجربة الطائف كخلاصة للحل السياسي الدولي والاقليمي بعد الشغور الرئاسي، يبدو انها بقيت في أذهان المسؤولين السوريين. ففي سوريا، استفاد السوريون من تجربة الحرب اللبنانية، حتى في ادارة يوميات الحرب وتقنياتها، لكن الاهم ان العلويين تعلموا من خطأ الموارنة، فلم يتخلوا عن السلطة، ولم يترك الاسد الحكم. بقي العلويون في السلطة كجزء من المشكلة، لكن ايضاً كجزء من الحل السياسي، الذي سيأتي حكماً. بعد ثلاثة اعوام من الحرب، وبرغم كل الاعتراضات الداخلية والانتقادات، لم يتخل العلويون عن الحكم، وبات «صمودهم» حكماً جزءاً من ضمانة مستقبلهم.
الموارنة قاموا بالعكس تماماً. تخلوا ثلاث مرات عن الموقع الرئاسي، كي يكونوا صانعي الحل، لكنهم اصبحوا جزءاً من حل يتقاسمه السنة والشيعة، وصاروا ملحقين بهذا الطرف او ذاك. ومشكلة السنة والشيعة انهم مضطرون إلى انتاج حل مرتبط جذرياً بمرجعياتهم الاقليمية، اي السعودية وايران، فيتحول تلقائياً حلاً مفصلاً على قياس الطائفتين. ولعل هنا الميزة التقليدية التي كان على الموارنة ان يتمسكوا بها لانتاج حل لبناني شامل، لا يرتبط بقوة اقليمية او دولية، لكن فاتهم في بحثهم الحالي عن حل للمسألة اللبنانية او عن رئيس للجمهورية، انهم اصبحوا طائفة ناشطة عبر الانترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، مثلهم مثل الدروز المنتشرين في الخارج، اذ لا يمكن بناء حل من خلال الانتشار والاغتراب كحالة منفصلة طالما ان المجمع الماروني أعاد التمسك بارتباط موارنة الخارج بلبنان كهوية وكأرض وكنيسة. والجولات التي يقوم بها البطريرك الماروني الكادرينال مار بشارة بطرس الراعي على دول الانتشار، ليست بديلاً عن حل ماروني داخلي، لا يزال مفقوداً.