تونس | لن تجد مختلف التيارات السلفية التونسية مناسبة للعودة إلى دائرة الأحداث في البلاد أفضل من بوابة الانتخابات التشريعية والرئاسية التونسية، هذه العودة التي كانت باسم الوصاية على الدين الذي «تتصارع» عليه مكونات هذا التيار المنقسمة بين «يُكفّر» من يشارك فيها، ومن «يُكفّر من لا ينتخب أحباب الله»، وأحباب الله هم «حركة النهضة».
وبعدما احتجبت التيارات السلفية الوهابية التونسية قرابة 9 أشهر عن الظهور على الساحة، وتركت الشأن السياسي مع قدوم حكومة المهدي جمعة، عادت قبل أيام للخوض فيه والبحث عن بسط الوصاية عليه تحت شعار «الواجب الشرعي»، الذي كان مبرراً لإصدار 13 جمعية دينية و32 من رجال الدين فتوى دينية جاءت فيها دعوة صريحة إلى التصويت لحركة النهضة الإسلامية في الانتخابات التشريعية المقبلة.
هذه الفتوى الصادرة يوم 15 تشرين الأول الحالي، والمفرج عنها عبر صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، جاء فيها إقرار بوجوب المشاركة في هذه الانتخابات من باب «الإدلاء بواجب الشهادة لله»، التي تستوجب من «المسلم الحّق» إدراك «أن المشاركة في الانتخابات ليست بنية التحاكم لغير الإسلام بل بنية تأييد الحق وأهله وعدم الموافقة على الباطل، وبنية تكثير النفع والخير وتقليل الشر وتخفيف الضرر» وفق ما جاء في نص الفتوى التي أخذت شكل بيان وقّعت عليه الجمعيات والشخصيات التي أسبغت على نفسها صفة «العلمية والشرعيّة».
فتوى شدّد مصدروها على ضرورة «اجتناب إعانة الظالمين ورموز الفساد والاستبداد الذين ثار عليهم شعبنا، عدم التصويت لكل من استهزأ بالإسلام وأحكامه أو شارك في تعطيل أية شعيرة من شعائره أو حاول منع بيوت الله عن القيام برسالتها في المجتمع»، ليست سوى دعوة إلى التصويت لحركة النهضة في الانتخابات التشريعية، أراد أصحابها إخفاءها عبر التشديد على ضرورة انتخاب من يخاف الله، ومعاقبة أعدائه، وهم بقية الأحزاب التي تعارض حركة النهضة وعارضت اعتماد الشريعة كمصدر أساسي للتشريع في الدستور التونسي المصادق عليه مطلع 2014.
الجهر بأن البيان الصادر ليس إلا فتوى، هو ما قام به البشير بن حسين أبرز رموز التيار السلفي الوهابي في تونس، الذي أكد أن مجموعة من العلماء درست «حكم الانتخابات ورأت وجوبها شرعاً»، لكن على شروط محدّدة وهي التصويت لمصلحة الأحزاب «القوية، الصادقة، الأمينة» التي لا تعادي الإسلام ولا أهله، واجتناب التصويت للأحزاب المحسوبة على النظام القديم أو التي تعادي الإسلام وترفض تحكيمه، لأن ذلك «شهادة زور» وهي من الكبائر التي نهى عنها الشرع.
وتجنّب البشير بن حسين أن يسمي طرفاً سياسياً بعينه، مكتفياً بالتشديد على وجوب التصويت للأحزاب الثورية، وملمّحاً إلى ضرورة مسامحتهم على الأخطاء التي ارتكبوها حينما حكموا، والمقصود هو أحزاب «الترويكا» الثلاثة، حركة النهضة الإسلامية، وحزب المؤتمر وحزب التكتل العلمانيان، رغم إدراكه أن الشروط التي وضعوها، القوة الانتساب للإسلام وأهله، لا تستجيب لها إلا حركة النهضة وحدها.
هذه الفتوى أنكرت حركة النهضة معرفتها بها على لسان القيادي عامر العريض، الذي برر في تصريح إلى «الأخبار» أن «جوهر الدعوة هو المشاركة في الانتخابات بكثافة» رداً على بعض الدعوات التي حرّمت المشاركة في الانتخابات. وشدد العريض على أن موقف حركته هو رفض توظيف الدين في المعركة الانتخابية، مشدداً على أن الانتخابات حقّ مدني وواجب على كل مواطن والتنافس فيها يكون «وفق البرامج والمصداقية».
في مقابل هذه الفتوى المشجعة على التصويت لحركة النهضة، تشتكي الحركة من استهدافها من قبل التيار السلفي التكفيري في المساجد وتحريض الناس عليها باعتبار أن المشاركة في الانتخابات والديموقراطية «عمل كفري»، وأن «النهضة» بقبولها للديموقراطية قد خرجت عن الإسلام. وقد أقرّ المدير التنفيذي للحملة المركزية لحركة النهضةK محسن النويشي، باستهداف التيارات السلفية للحركة بقوله إن هناك من يحاول «إيجاد رأي عام في المساجد يعادي حركته». وأوضح النويشي في حديث إلى «الأخبار» أن «الخطاب المضاد لحركته انطلق قبل الانتخابات، لكنه تعزّز مع انطلاق الحملة الانتخابية».
اعتبار التيار السلفي الجهادي والتكفيري في تونس أن «المشاركة في الانتخابات هو من الأعمال الكفرية»، ينعكس في خطابات أبرز قادة التيار في البلاد، وهو الخطيب الإدريسي الذي يرى أن الديموقراطية «دين كفري» بما أنها «احتكام بغير ما أنزل الله» والقبول بالاحتكام لقوانين وضعية بشرية، واعتمد على هذا الرأي في حجته لتكفير المشاركة في الانتخابات باعتبارها أحد أركان «الدين الكفري».
اقتصار الخطيب الإدريسي على تصنيف الديموقراطية بأنها «دين كفري» يقابله إقرار محمد خليف، وهو من المرجعيات لدى التيارات التكفيرية، بأن الانتخابات حرام وكلّ من يشارك فيها قد خالف الشرع بإقراره أن «الحكم لغير الله».
هذه الفتوى الصادرة قبل أيام قليلة من توجّه التونسيين إلى صناديق الاقتراع لم تجد من يلجمها، فلا الحكومة التونسية ولا الهيئة المستقلة للانتخابات قادرتان على ذلك، بل هما لا تعلمان بوجود مثل هذه الفتوى.