التطرف ليس فقط ظاهرة بشرية، فالطبيعة ايضاً بدأت تتجه نحو خيارات جديدة يسميها علماء المناخ «الظواهر المناخية المتطرفة”. الامطار الغزيرة المفاجئة بعد فترة جفاف طويلة هي واحدة من هذه الظواهر، التي ستزيد من حدتها في مختلف المناطق اللبنانية، ما يؤدي الى انجراف للتربة التي تعاني اصلاً ضعف الغطاء الحرجي المسؤول عن ثبات التربة في مواجهة الامطار الغزيرة.
في وقت لا تزال فيه البنية التحتية، سواء في المدن أو في الارياف غير مؤهلة لاستيعاب هذه الكمية من الأمطار، وهي تعاني سنوياً تأخر التلزيمات التي تقوم بها وزارة الاشغال العامة والنقل للتنظيف المجاري وتاهيلها.
نحو الساعة الواحدة والنصف تقريباً من بعد منتصف ليل الجمعة ـ السبت الماضي، استفاق المواطن عامر زين الدين، ابن بلدة قرصيتا في أعالي جرود الضنية، على صوت باب منزله وهو يقرع بقوة، فتوجه نحوه بسرعة، ولكنه ما كاد يفتحه حتى اندفعت نحوه كميات كبيرة من المياه والوحول والحجارة، وتدفقت داخل منزله الذي تحوّل إلى بركة مياه.
العاصفة أجبرت قرابة
50 عائلة على مغادرة منازلها في قرصيتا

صدمة زين الدين لم تقف عند هذا الحد، فالسيول المتدفقة داخل منزله قذفت بالكثير من أغراض منزله خارجه، ومنها كان سرير ابنه الصغير الذي لم يتجاوز الخامسة من عمره، حيث حملت السيول السرير معها، ما دفعت زين الدين إلى أن يقفز كالمجنون خلفه وهو يحاول إنقاذ ابنه، واستمر راكضاً وهو يتخبط أكثر من 250 متراً وسط السيول وهو ممسك بسرير نجله محاولاً جهده عدم غرقه، قبل أن يتمسك بشجرة وسط السيول المتدفقة، حيث جرى إنقاذه مع ابنه لاحقاً على يد جيرانه.
تلك الليلة لم يبت زين الدين في فراشه، لا هو ولا أفراد عائلته ولا غالبية أهالي البلدة التي يزيد عدد سكانها على 4 آلاف نسمة، بسبب السيول التي تدفقت نتيجة العاصفة وأجبرت قرابة 50 عائلة على مغادرة منازلها التي تحوّلت إلى بحيرات، واضطرت للمبيت عند أقاربها وجيرانها، وسط أجواء من الصدمة والذهول لدى الأهالي.
يقول خالد داود، أحد أبناء البلدة، «لم أر في حياتي ما رأيته تلك الليلة، كان شيئاً لا يصدق»، ناقلاً عن كبار السن في بلدته أنهم لم يروا سيولاً وأمطاراً كما رأوها أخيراً طوال حياتهم.
مع ساعات فجر السبت، اتضح على نحو تدريجي حجم الكارثة. جميع طرقات البلدة مقطوعة، ابتداءً من بلدة بيت الفقس المجاورة، بسبب تراكم الأتربة والوحول والصخور، والتي وصل ارتفاع بعضها إلى أكثر من 4 أمتار. عشرات البيوت أصبحت غير صالحة للسكن إما بسبب تدفق السيول إليها او تصدعها، وعشرات السيارات والشاحنات الصغيرة والمتوسطة التي جرفتها السيول أصبحت هياكل معدنية. مئات رؤوس الأبقار والماشية نفقت، وحدثت انهيارات في الأراضي الزراعية.
الأمين العام للهيئة العليا للإغاثة اللواء محمد خير وصل صباحاً إلى بلدة قرصيتا، وهناك «أصيب بالصدمة من هول الأضرار التي رآها» وفق علوش.
أضرار العاصفة لم تقتصر على بلدة قرصيتا فقط. ففي بلدة بيت الفقس المجاورة عزلت السيول بعض الأحياء بعدما دخلت إلى عدد من البيوت. وفي بلدة عين التينة انهارت عبّارة تربطها مع بلدة نمرين المجاورة، كما تضرّرت كليّاً بئر مياه حُفرت حديثاً مع مولّد كهربائي، اشتراه الأهالي على نفقتهم.
وفي بلدة بقاعصفرين تسبّبت انهيارات صخرية في عزل منطقة جرد النجاص في أعالي البلدة عنها، ما دفع عائلات تعمل في الجرد إلى طلب المساعدة وفتح الطريق. وفي بلدة بخعون أدى انهيار ساتر ترابي ملاصق لجسر بخعون ـ طاران الى إغلاق الجسر نحو 3 ساعات قبل أن يعاد فتحه، وخلال هذه الفترة عزلت أكثر من 20 بلدة وقرية عن محيطها، لأن الجسر هو نقطة عبورها الرئيسية إلى الخارج.
كما أدى انهيار جسر السفيرة ـ كفربنين الى عزل 6 قرى في أعالي جرد المنطقة، وأظهر الانهيار أن «سببه سوء التنفيذ» بحسب رئيس بلدية السفيرة حسين هرموش، بينما أشار رئيس بلدية كفربنين محمود إبراهيم إلى أنه «سوف يلتقي وزير الأشغال العامة غازي زعيتر ويقدم له كتاباً تفصيلياً بالأضرار».
وأغلقت مدارس الضنية في المناطق الجردية أبوابها يوم السبت بعد تعذر الوصول إليها للأساتذة والطلاب معاً، وهو إغلاق يتوقع أن يستمر في بعض البلدات اليوم أيضاً، كما كشفت الأمطار والسيول عن تضرر قسم كبير من شبكة مياه الشرب في المنطقة، التي انقطعت عن بعض القرى من جهة، ومن جهة أخرى فإن المياه وصلت عكرة إلى أغلب المنازل بعدما اختلطت معها الاتربة.
وفي عكار، أحدثت الأمطار الغزيرة فيضانات وسيولا أدت إلى قطع معظم الطرقات الرئيسية والفرعية في عدد كبير من القرى. شبكتا الاتصالات والإنترنت توقفتا عن العمل على نحو تام. وأمسى عدد كبير من المواطنين سجناء في مركباتهم التي تعطلت في طرقات تحولت إلى بحيرات. من الخامسة فجراً حتى العاشرة صباحاً، عزلت منطقة حلبا عن جوارها على نحو كامل، بسبب تجمع الصخور والحصى والحجارة على الطرقات، وانسداد أقنية صرف المياه. يرد أحد المطلعين في بلدية حلبا السبب في ما حصل إلى تقصير وزارة الأشغال والنقل، مشيراً إلى أنه «في أوائل شهر أيلول من كل عام، تتولى فرق خاصة تنظيف شبكات أقنية صرف المياه، إلا أن هذا العام لم يصل أحد من هؤلاء إلى عكار، بالرغم من الكتب الكثيرة التي رفعت للوزارة».
في المحمرة وببنين، وبرج العرب ووادي الجاموس، فاضت المياه على الطرقات وحملت معها أعداداً هائلة من الصخور والحجارة والطين، انهار على أثرها عدد من الجدران كانت قيد الإنشاء. وفي حلبا حل الرعب في نفوس أطفال المدارس بعدما احتجزوا بداخلها لمدة خمس ساعات بسبب دخول السيول إلى داخل الصفوف، وتجمع الوحول والطين فيها.
يؤكد رئيس بلدية حلبا سعيد الحلبي أن «الكارثة التي وقعت في عكار تكشف حجم الإهمال الرسمي اللاحق بالمحافظة».
وفي بلدة البحصة التي زارها اللواء خير متفقداً الأضرار وواعداً بالتعويض، أدت العاصفة إلى انهيار أحد أكبر المشاتل فيها. صاحبه محمد عز الدين صُدم من هول المشهد. الرجل الأربعيني خسر جنى عمره كما ردد.
وفي بلدة برقايل قطعت معظم الطرق الفرعية وجرف الزفت عنها بفعل الحصى والحجارة التي غطتها، ما دفع برئيس بلديتها سمير شرف الدين إلى استئجار معدات عملت على رفع الصخور من الطرقات وفتحها أمام المواطنين. وقد أكد في اتصال مع «الأخبار» أنه «كان من المتوقع حدوث بعض الانسدادات في شبكات تصريف المياه نظراً إلى أنها لم تنظف هذا العام، ولكن أحداً لم يكن يتصور حدوث فيضانات على هذا المستوى». تابع «فيضان مياه مشروع ري نهر البارد يعقد المسألة أيضاً، فقد فاض النهر بارتفاع متر ونصف متر، فغزت مياهه جميع القرى المجاورة، وألحقت أضراراً في المزروعات والممتلكات».
وفي سهل عكار دخلت المياه خيم النازحين السوريين وأغرقتها، كما كادت أن تتسبب بمقتل عدد منهم. إلى أن تدخلت فرق الصليب الأحمروأجلت عددا كبيرا منهم، إضافة إلى تحرك قسم الطوارئ في مفوضية الأمم المتحدة اللاجئين الذي سعى إلى توفير أماكن آمنة لهم.
وفي بلدة الفاكهة تسببت الامطار الغزيرة بسيل جارف وعبرت الجسر عند طريق عام بعلبك - الهرمل محلة الجديدة، محملة بالاتربة والاحجار وصولا الى السهول المجاورة، ومجرى نهر العاصي في الهرمل، مصدرها سلسلة الجبال الشرقية في جرود رأس بعلبك والفاكهة.