حمل الأميركي دافيد غوردن غرين (1975) كاميراه إلى البلدات النائية منذ بداياته المبشّرة في «جورج واشنطن» (2000). منشأه الريفي في تكساس أثّر في اختيار مناخاته، كما في «مانهاتن» وودي آلن و«نيويورك» سكورسيزي، و«بوسطن» بين آفليك، و«أركنساس» جيف نيكولز. هناك حيث يهتمّ النّاس بشؤونهم بعيداً عن كليشيهات الحياة الاستهلاكيّة وقاع العصابات. الانتاجات المستقلّة أحبّت هؤلاء. راحت تغوص في بيئاتهم وعوالمهم.

مهرجانات سينمائيّة مثل «ساندانس» صارت منصّات تتويج لشخصيات من لحم ودم. إنّه الوجه الآخر لأميركا البساطة والعوز والتأزّم الاجتماعي. في «برينس أفالانش» (2013)، عاد غرين إلى تكساس من باب المهمّشين والأفق المفتوح والأحلام الصغيرة. أمّا في جديده «جو»، فيقترح شريطاً مظلماً زاخراً بالعنف والقسوة والعسف النفسي.
يفرض الفيلم احترامه بافتتاح «ون شوت» من العيار الثقيل. «وايد» (غاري بولتر) أب كحولي متشرّد يعنّف ابنه المراهق «غاري» (تاي شيريدان)، كذلك يفعل مع العائلة عموماً. سايكوباثي لا يتورّع عن فعل أيّ شيء من أجل زجاجة شراب. من ناحية أخرى، يظهر «جو» (نيكولاس كيدج) ربَّ عمل عادلاً وودوداً مع عمّاله. يعمل في تسميم الأشجار تمهيداً لقطعها. يلهو مع الثعابين، ويربّي كلبة شرسةً. يستخدم الفؤوس والسكاكين كريشة فنّان. هذه معادلات لشخصيته المتقلّبة بين تاريخ أسود، وبين حاضر على الحافّة. السيطرة على الغضب والانفعال ليس سهلاً بطبيعة الحال. تعرّفه إلى «غاري» يفجّر داخله الرغبة في التطهير الذاتي والمضي قدماً نحو الأمام. للغابات المحيطة والغطاء الشجري الكثيف رأي آخر. القانون مقتصر على شريف البلدة الذي لا يمكنه فعل الكثير. هو الآخر ابن هذا التيه. الفقر والتهميش يولّدان همجية قاسيّة في النفوس. غروتسك برّي يضعنا في قلب السواد والمصاعب. الاختلاف بين «وايد» و«جو» ليس كبيراً في النهاية، باستثناء أنّ الأخير يحاول أن يكون إنساناً. كيف يمكن مراهقاً ضعيفاً أن يخرج نظيفاً من هذا القيح الأخلاقي؟ لا بدّ من دفع الثمن. «جو» قائم على مناخ غنيّ وعوالم داخليّة ناضجة. تيرانس ماليك حاضر بقوّة. «وحل» جيف نيكولز أيضاً. المفارقة أنّ الصغير شيريدان اشتغل مع الرجلين سابقاً. غرين نفسه عمل منتجاً في أوّل أفلام نيكولز Shotgun Stories عام 2007. إيقاع بطيء يأخذ وقته لصناعة سينما تأمليّة تبحث في الجوّانيات والبواطن. عمل يدوي شاق يتماهى مع التقلّب النفسي كما في «برينس أفالانش». غرين لا يكترث لتبرير كل شيء. نحن هنا والآن، وهذا هو الحال لأنّه كذلك. من خلال عيني «جو»، نتعرّف إلى ناس معجونين بالحياة، وإن لم يكن ظهور الجميع ضرورياً. سلخ جلد الحيوان، وقتل المتشرّد الآخر مشهدان لافتان، لكن يمكن الاستغناء عنهما بسهولة. صراع الكلاب صورة لا تُنسى أيضاً. كل ذلك يحيل على «وحوش البرّ الجنوبي» لبين زيتلن، و«مملكة الحيوان» لدافيد ميشود، ولكن ليس بنفس القوّة والإحكام. الشريط يدور حول نفسه أحياناً. الشخصيات تشرح نفسها في بعض الحوارات المباشرة. يمكن تلمّس بعض التشظي في المنتصف.
سينماتوغرافيا تيم أور لافتة في التمايز اللوني بين طبيعة الخارج ودراما الداخل. تناقض محفّز بين الانفتاح والضيق، وبين الضوء والظلام. هو رفيق غرين منذ أيام «جورج واشنطن». على مستوى التمثيل، يتوهّج غاري بولتر بتلقائية مدهشة. إنّه متشرّد حقيقي من أوستن، جرت الاستعانة به في دور غير بعيد عن عوالمه. غرين استعان سابقاً بممثّلين غير محترفين في «جورج واشنطن». المفارقة المظلمة أنّ بولتر وجد ميتاً في الشارع بعد شهرين من انتهاء التصوير. نيكولاس كيدج يثبت أنّه قادر على التمثيل كل بضع سنوات. يحتاج إلى بعض الأداءات المماثلة ليحسّن صورته بعد اختيارات كارثيّة وغزارة مرضيّة في العمل. شيريدان صاعد بقوّة في المشهد السينمائي. عليه فقط أن يتخلّص من نمط المراهق البريء. يستحسن أن يفعل ذلك سريعاً.

«جو»: صالات «غراند سينما» (01/209109)، «فوكس سينما» (01/285582)، «أمبير» (1269)