دمشق | عبر البادية والريف الحلبي، كانت بعض السيارات المحملة بنفط دير الزور ــ وقبل أن تبدأ طائرات «التحالف» بضرب المنشآت النفطية ــ تشق طريقها نحو معارة النعسان، التي يحلو للبعض تسميتها اليوم «أوبك» محافظة إدلب، في إشارة إلى تحوّل القرية الصغيرة الواقعة على الطريق القديم الواصل بين مدينتي إدلب وحلب، إلى مركز رئيسي لشراء وبيع النفط الآتي من المنطقة الشرقية.
أحد الصحافيين المقيمين في مدينة إدلب أكد لـ«الأخبار» أن جزءاً من النفط المسروق من حقول دير الزور، والمكرر بعضه بطرق بدائية، كان يجري تسويقه في المعارة، ليهرب إلى تركيا عبر سماسرة سوريين وأتراك، أو ليباع إلى بعض مناطق ريف المحافظة الخارجة عن سيطرة الدولة، مبيناً أن عمليات البيع والشراء تتم إما بالعملة السورية أو بالدولار الأميركي، مع أفضلية للأخير.
أما مدينة سرمدا، الواقعة إلى شمال مدينة إدلب بنحو 30 كلم، فإن قربها من الحدود مع تركيا جعلها تتحول هي الأخرى إلى «سوق حرة» تعرض فيها جميع البضائع والمنتجات المهربة، بما فيها السيارات القديمة والحديثة بماركاتها المختلفة... هنا لا ضرائب أو رسوم جمركية أو إجازات استيراد. ويبدو أن هذه حال العديد من مناطق الشريط الحدودي مع تركيا، بدءاً من عزمارين إلى حارم، باب الهوى، فباب السلامة.
وإلى الشرق، حيث تخضع معظم آبار النفط لسيطرة تنظيم «داعش» ومجموعات مسلحة أخرى، فإن عمليات الإنتاج والتكرير البدائية، والناشطة قبل غارات «التحالف»، أسهمت في نشوء شبكات تجارية وأسواق متعددة، أخذت على عاتقها تسويق النفط الخام المنتج نحو الخارج، وبيع مشتقاته المكررة بشكل بدائي للسكان المحليين لأغراض التدفئة وتشغيل الآليات والمحركات الزراعية.
مصادر خاصة في وزارة النفط والثروة المعدنية قالت لـ«الأخبار» إنّ المعلومات شبه المؤكدة حالياً (قبل الغارات) تشير إلى أنّ «المجموعات المسلحة الإرهابية تنتج يومياً ما بين 70 إلى 80 ألف برميل»، أي ضعف ما كانت تذهب إليه التقديرات السابقة (40 ألف برميل يومياً)، وتالياً فإن الأثر الذي أحدثته تجارة النفط غير الشرعية اتسع مع زيادة كميات الإنتاج، والمتوقع لها أن تزداد أكثر مع تبني تنظيم «داعش» استراتيجية تقوم على استقطاب كفاءات نفطية محلية أو أجنبية متعاطفة مع فكر التنظيم.
وكشفت المصادر أن وجهة نفط دير الزور المسروق وفق معلومات غير موثقة تماماً تتمثل في خمسة اتجاهات رئيسية هي: منطقة تل أبيض الواقعة على الحدود مع تركيا لبيعه لسماسرة وتجار أتراك، منطقة كردستان في العراق، بعض المناطق التركية الحدودية مباشرة، مدينة الرقة التي يسيطر عليها حالياً تنظيم «داعش»، ومنطقة ريف حلب الخاضعة لسيطرة تنظيمات مسلحة مختلفة.
على النقيض من ذلك، فإن بعض مناطق الجزيرة وريف حلب الحدودي تشهد هي الأخرى حركة اقتصادية تتنامى باستمرار، لكن بعيداً عن «كعكة» تجارة النفط، قوامها المتاجرة بالسلع والمواد المهربة من تركيا والعراق، وبيع المنتجات الزراعية الرئيسية من قمح وقطن وزيت زيتون... وغيرها لسماسرة محليين وأجانب والمتاجرة بالعملات الأجنبية والسلاح، وليس أدل على ذلك من مظاهر الثراء التي ظهرت فجأة على الكثيرين في تلك المناطق، وارتفاع أسعار العقارات من منازل وأراض زراعية بشكل لافت للنظر.
ولا يقتصر ازدهار النشاط الاقتصادي غير الشرعي على المناطق الساخنة والحدودية، وإنما يمتد ليشمل كذلك المناطق الآمنة الخاضعة لسيطرة الدولة وإن بصورة مختلفة، فقد شهدت الفترة السابقة نمواً مطرداً في عمل السوق السوداء لتجارة القطع الأجنبي والعديد من السلع والبضائع، وظهوراً لـ«جرائم» ذات أهداف اقتصادية كالخطف للحصول على فدية مالية، وعمليات التزوير بغية السطو رسمياً على عقارات بعض المواطنين وممتلكاتهم، وسرقة المنازل أو ما بات يعرف بظاهرة «التعفيش»، فضلاً عن المتاجرة بالمواد المخدرة الممنوعة... وغيرها.

طحن العظام

تغير المشهد الاقتصادي لكثير من المناطق، الخاضعة لسيطرة الدولة أو المجموعات المسلحة، وظهور أنشطة اقتصادية غير شرعية تديرها شبكات تحترف العمل يوماً بعد يوم، أمر يفسره الباحث في «المركز السوري لبحوث السياسات» نوار عواد بقوله: «تؤدي الصراعات المسلحة وخصوصاً الداخلية منها إلى تخلخل البنية المؤسساتية الرسمية وغير الرسمية التي تحكم العلاقات والتواصل والمصالح ضمن المجتمع، بما يؤدي إلى عدة نتائج تتضمن تهديداً مباشراً لقدرة الأفراد ليس فقط على الاستمرار في نمط حياتهم قبل نشوب الصراع، بل وفي قدرتهم على تأمين الاحتياجات الأساسية للحياة في المسكن والغذاء والعلاج والأمان. كما يؤدي هذا التخلخل أيضاً إلى نتائج اقتصادية تتمثل في تراجع الأداء الاقتصادي الحقيقي أو القانوني، وبروز فرص جديدة لنشاطات اقتصادية غير قانونية مرتبطة بحالة الصراع، تستغل الحاجات الجديدة الناشئة، وغياب السيطرة على بعض الموارد، وتطور أسواق جديدة مرتبطة بالصراع المسلح مثل تجارة الأسلحة والأفراد وتهريب السلع من وإلى مناطق الصراع...».
وعلى خلاف النشاط الاقتصادي الشرعي، فإن هذا النشاط المرتبط عضوياً بوتيرة القتال وتوسع دائرة المعارك وغياب مؤسسات الدولة، يسهم في «طحن عظام» الفقراء وأصحاب الدخل المحدود، وخلخلة البيئة الاجتماعية والاقتصادية للبلاد، ووفقاً لما يؤكده الباحث عواد «فإن الفئات الأكثر فقراً من الجنسين، والأكثر هشاشةً منهم مثل النساء والأطفال والشيوخ هم أكثر المتضررين من اقتصاد العنف. إذ يؤدي ذلك إلى دخول هذه الفئات في دوامة جهنمية من البؤس وتراجع الموارد وانعدام الأمان، وتالياً تتراجع أولوياتهم إلى مستوى تأمين الحاجات الأولية للحياة، والتي تضمن النجاة فحسب، مقابل تراجع قدرتهم على الطموح، وعلى تطوير أولويات تطمح إلى مستقبل أكثر رفاهية...».
بالمحصلة، فإن «كل ذلك يؤدي إلى تراجع الرأسمال البشري والمعرفي والثقافي للمجتمع، وتالياً تراجع في قدرته الذاتية على النهوض وإعادة تكوين نفسه، وعلى المشاركة في صنع مستقبله، وهذا يجعل أفضل السيناريوات المستقبلية بائساً...».