تعيد لارا، فوق الحجارة المبعثرة خلف المنزل، رسم المكان: هذا الركن كان للخراف، هذا للماعز، وهنا الدجاجات. هنا كنا نكدّس حطب التنّور. تكاد تتنشق رائحة الخبز الطري من فوهة التنور. هذه بقايا مشارب الأبقار، وفي تلك الحجارة البيضاء كنا نجرن اللحمة والحبوب ونطحن القمح. تحمي عينيها بكفها من الشمس، ناظرة صوب أرض جرداء، مستذكرة أشجاراً ملونة على مدِّ النظر.
يعيدها صوت جدّتها إلى البيت المقسوم اثنين؛ واحد تستأجره عائلة سورية نازحة بمئتين وخمسين دولاراً وما يفيض عنها من مساعدات هيئات الإغاثة، وآخر تسكنه العجوز معوّلة على أبناء جيرانها الجدد لمساعدتها في تنظيفه والطبخ. تتذكر الجدة، لدى ذكر الطبخ، أن طنجرتها فوق الغاز، فتودّع حفيدتها من دون أن تفصح عما يبقيها فعلاً بين جدران الماضي هذه. أما ابنها فيربط عودته إلى البلدة بوجود والدته فيها: «أنا أعزب. تقاعدت قبل عامين من الجيش، أهتم هنا ببعض الأشجار وأتسلّى بالصيد، إلى جانب اهتمامي بوالدتي». لا تحتمل لارا مقارنة الحياة في شقة صغيرة في سد البوشرية أو الدكوانة أو غيرها من أحياء الضاحية الشمالية بالحياة هنا. يتعلق الأمر بالهواء النظيف والعلاقات الاجتماعية وتكلفة المعيشة وطبيعة النشاط الاقتصادي. هي لا تزال في بيروت ريثما تجد الفرصة الملائمة للعودة. تسأل: ماذا تختار بين استثمار ذكي في زراعة الورد أو تصنيع النبيذ، وبين العمل في مصرف أو متجر ألبسة أو غيرهما؟ أجر معلمة المدرسة أو الممرضة يبقى هنا كله، فيما يتبخر في بيروت قبل عودة الموظف من المصرف إلى منزله.
بدأ التداول باسم بلدة القاع إثر المجزرة التي أودت بحياة 26 من أبنائها في 27 حزيران 1978.
لم تسجل حالات نزوح في القاع بسبب الأوضاع الأمنية في الأشهر القليلة الماضية


مع انتهاء الحرب، لم يكن قد بقي في القاع أكثر من 15% من أهلها. في موازاة الخوف، لعب التحوّل الاقتصادي الذي طرأ على حياة المهجرين دوراً رئيسياً في عدم عودتهم. قبل الحرب كانت أكثريتهم مزارعين أو رعياناً أو موظفين في الإدارة العامة، لكنهم انتقلوا إلى التجارة في ضواحي بيروت وباتوا يستصعبون العودة مع أبنائهم بعد عقدين إلى الحياة الزراعية بكل مشقّاتها. وما كاد بعض القاعيين يبدأون ببيع أراضيهم لجيرانهم حتى شاع إعلامياً اتهام هؤلاء الجيران بالسعي الى أخذ في السلم ما عجزوا عن أخذه في الحرب، فترافق التراجع الديموغرافي مع انكماش اقتصادي واجتماعي: رغم العلاقات الوطيدة للقاعيين القوميين مع جيرانهم، ومدّ التفاهم بين التيار الوطني الحر وحزب الله، بعد 2006، جسوراً متينة بين القاع والهرمل، بقيت العلاقات باردة. لضرورات استشفائية فقط، يزور القاعيّ الهرمل. شارع سلاف في الدكوانة أقرب للتسوق من سوق بعلبك. في الطريق إلى القاع، يودّع اتحاد بلديات الهرمل السيارات قبل عشرات الأمتار من الوصول إلى مفرقها، ليستثنيها بذلك مما تبقى من الخارطة، لأن مجالس بلدياتها المتعاقبة رفضت انضمام البلدة إلى اتحاد البلديات. يكفي، من الجهة الأخرى، أن يقتل راع عرسالي راعياً قاعياً في خلاف شخصيّ لتشعر البلدة كلها أنها مستهدفة ويبدأ قرع الأجراس. يُبرز أحد الطلاب قائمة تبيّن الهوية المذهبية لكل القرى من القاع حتى بيروت، ليعرف في حال خطفه ماذا يقول، في دليل إضافيّ على القلق الأمني المعشعش في الرؤوس. ويضاف إلى كل هذا، لا مبالاة المرجعيات السياسية بأحوال هؤلاء: لا رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون ولا رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع تعنيهما أوضاع هذه القرى، طالما لا تأثير، ولو هامشياً، لأصوات ناخبيها في صندوق الاقتراع. لا بل يشير أحد أبناء البلدة إلى شعور لدى الناس بأن كلاً منهما يرغب في اجتياح خصومه المفترضين للقاع والتنكيل بأهلها، ليؤكد لجمهوره صوابية موقفه ووجوب التفافهم حوله أكثر فأكثر لمواجهة الـ «بعبع». وما يزيد المشهد بشاعة انقسام البلدة على نفسها، وتخبّط مجلسها البلديّ في خلافات العائلات، لتتعطل بذلك أيضاً وأيضاً السلطة الإنمائية المحلية.
مع ذلك، لا يكاد المغيب يلوح يوم الجمعة، حتى تصل عشرات السيارات محمّلة بأبناء البلدة لتمضية نهاية الأسبوع. في الطريق إلى أحد المزارات الدينية، تلمح على طرفي الطريق منازل جديدة ضمن ما بات يوصف بالـ «نيو قاع». مختار البلدة «يطحش» في قيادة تجمع (من العسكريين المتقاعدين وبعض العونيين) بات يعرف باسم «الصقور»، لحماية بلدتهم من أي هجوم محتمل لـ «داعش». ورغم معرفة هؤلاء أن وصول المقاتلين إلى بلدتهم شبه مستحيل لوجوب اختراقهم سلسلة من التحصينات الثابتة والمتحركة لحزب الله، فإنهم يُظهرون استعداداً كبيراً لا للدفاع عن أرضهم فقط، وإنما للموت في سبيل هذا الهدف. «داعش» لا تخيف «مختار المخاتير»؛ ففي الحرب الأهلية اللبنانية «كان هناك من هم أكثر وحشية من الدواعش بكثير، لكن لم يكن هناك يوتيوب ولا فايسبوك. كان السبت الأسود أكثر دموية من كل ما تراه اليوم».
لم تسجل حالة نزوح واحدة في الأشهر القليلة الماضية بسبب الأوضاع الأمنية، فيما ترتفع أعمدة الباطون لمنازل جديدة. ويتحدث الأهالي، بحماسة، عن بعض المغامرين الذين يستثمرون في مشاريع سياحية صغيرة وأخرى زراعية؛ مزارع الدواجن الحديثة تغزو المشاريع من مختلف الجهات، بموازاة دوالي العنب لتصنيع النبيذ والعرق. لا تشعر في القاع بذعر شعبيّ أو هلع؛ هم يتحسبون بجدّية لاحتمال اقتراب الدواعش من بلدتهم، لكنهم لا يبالغون في قرع الأجراس. يتحدثون عن «داعش» دقيقتين أو ثلاثاً، فيما الوقت كله لغياب الخدمات الطبية والمؤسسات التعليمية وفرص العمل والخطط الزراعية والمشاريع الترفيهية والمخطط الجدي لإبقاء أهالي القرى في قراهم. في هذه اللحظات الحرجة أمنياً، يقولون إن هناك ما هو أخطر من «داعش» بكثير: تهديد «داعش» عابر أما الحرمان فمقيم.




الصلبان الحقيقية


يسابق مخايل وفيليب المغيب في طريق عودتهما من المراعي البعيدة إلى حظيرة واسعة يختلط الطين بحجارة جدرانها. أحدهما يقود قطيع ماعز، والآخر قطيع خراف. يشرح مخايل أن عدد الرعيان من أبناء البلدة تناقص كثيراً: «نحن 12 أو 13 فقط اليوم. سابقاً كانت هناك أشجار وعشب تسمن الخراف. أما اليوم فالجفاف مخيف ولم يعد أحد يزرع. بتنا نتكل على العلف المكلف لتسمين الخراف، ونشتري المياه بالصهاريج». خلفهما، يتحرك أحد المزارعين في أرضه وسط ثمار البطيخ المهترئة كعسكري يرقص فوق أشلاء جيشه بعد معركة خاسرة: «هذا لحمي الحيّ؛ تركتهم في الأرض ليتعفنوا. بفضل الدولة، تبلغ تكلفة الزرع والقطف والنقل ضعفي سعر المبيع». كبار المستثمرين يربحون، أما الرعيان وصغار المزارعين الذين لا يملكون القدرة على شراء كمية كبيرة من العلف أو حفر آبار ارتوازية فلا يربحون شيئاً، خصوصاً في مناطقنا». يشير إلى خزاني مياه فوق تلة بعيدة، لافتاً إلى أن جر المياه سواء من العاصي أو عبر الآبار الارتوازية أو من مصادر أخرى كان سيخفف عنهم قليلاً، إلا أن القوى السياسية المسيحية لا تفكر بمشروع إنمائي يبقي مزارعي القرى البعيدة عن جبل لبنان في أراضيهم، مقارناً أيضاً وأيضاً بين سعي حزب الله وحركة أمل الحثيث لتصريف الإنتاج الزراعي في مناطقهما، وعدم تطرق القوى المسيحية، ولو في حشو خطاباتها، لقضايا كهذه. واللافت، في حديثه العفوي، عدم تحميله نواب المنطقة أو أحزابها الرئيسية مسؤولية عدم الاهتمام بإنتاجه على غرار اهتمامها بالمزارع الشيعيّ؛ كأنهم غير معنيين في حساباته بإنماء المناطق المسيحية؛ هذه مسؤولية الزعماء المسيحيين. «قل للوزير جبران باسيل إن هناك صليباً في المشاريع يحتاج إلى الإنارة فيهرع فوراً؛ قل له إننا نحتاج كهربائه لجرِّ المياه فلا يبالي أبداً». ويسأل نفسه: «من يعلمهم أننا الصلبان الحقيقية التي تحتاج إلى الإضاءة؟».