موسكو | ما يجري على رقعة الشطرنج الأوكرانية، يوحي للوهلة الأولى بأن الدب الروسي ذهب بعيداً في خططه في شرق أوكرانيا، وأن العقوبات الغربية تجبره على التراجع. غير أن مصادر مطلعة تؤكد أن خطة الكرملين الاحتياطية لإعادة القرم إلى الحضن الروسي، والتي وضعها مساعد الرئيس الروسي ورجل المهمات السرية فلاديسلاف سوركوف لم تكن لتبصر النور، لولا التحريض الأميركي المباشر، الذي قاده موظفو الخارجية الأميركية ذوو الأصول الأوكرانية والبولونية واليهودية في أوكرانيا ضد روسيا، وأيضاً إنفاق واشنطن 5 مليارات على إطاحة الرئيس الأوكراني السابق فيكتور يانوكوفيتش.

كذلك، فإن تسعير ميدان كييف أجبر موسكو على تسخين المرجل الأوكراني، وتقديم دعم مادي ولوجستي لجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين، تحوّل في ما بعد إلى تدخل سرّي عسكري أثمر عن انتصارات أحرزتها أخيراً هاتان الجمهوريتان غير المعترف بهما، ما أسهم في توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار مطلع هذا الشهر في العاصمة البيلاروسية مينسك، بعد خمسة أشهر على المعارك الطاحنة.
وفي حقيقة الأمر، يقدّم الرئيس الأوكراني الحالي بيترو بوروشينكو لموسكو، التنازل تلو الآخر رغم نبرته الخطابية العالية. إذ إنه على الرغم من توقيع اتفاقية الشراكة التجارية الانتسابية بين أوكرانيا والاتحاد الأوروبي، فإن اتفاقاً تم مع كييف على تأجيل تنفيذها إلى 1 كانون الثاني 2016، بعد تحذير واضح من أن أبواب السوق الروسية ستغلق أمام البضائع الأوكرانية، في حال تطبيق الاتفاقية.
بيد أن أصوات الراديكاليين الأوكرانيين عادت لتعلو من جديد، مهدّدة بوروشينكو بمصير مماثل ليانوكوفيتش، ما دعاه إلى الدفاع عن نفسه عبر صفحته على موقع «فايسبوك»، حيث قال إن الزعماء الغربيين أخبروه، بشكل واضح، أنهم لا يعتزمون الدخول في حرب مع روسيا من أجل أوكرانيا.
ومن جهة أخرى، يلعب عامل الشعبية دوراً مهماً في هذا السياق، ففيما لا تتعدى شعبية «تكتل بوروشينكو» الـ 40% وفي الوقت الذي تراجعت فيه شعبية الرئيس الأميركي أوباما إلى الحضيض وأصبحت شبيهة بشعبية جورج بوش الابن عام 2006، فإن شعبية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تكاد تصل إلى 90%، هو الذي يقوم حالياً بضبط الجبهة الداخلية الروسية. ومن أبرز الخطوات في هذا الشأن، كانت وضع رجل الأعمال الروسي البارز فلاديمير يفتوشينكوف تحت الإقامة الجبرية، ما يعد تحذيراً واضحاً للأوليغارشيين الروس من استغلال الصعوبات الاقتصادية الحالية ومحاولة قلقلة الأوضاع والرهان على قلب النظام لمصلحة الغرب.
ويأتي في هذا الإطار أيضاً، القانون الذي أقرّه مجلس النواب الروسي (الدوما)، والذي يحظر على الأجانب امتلاك أكثر من 20% من أسهم وسائل الإعلام الروسية في عام 2016، بدلاًً من 50% في الوقت الحالي؛ ولا سيما أن الصحافة «الليبرالية» الروسية المدعومة من الغرب لا تزال تشن حملة شعواء على بوتين منذ انضمام القرم إلى روسيا.
ولكن يبقى هناك وضع الهدنة في منطقة الدونباس التي لا تزال هشة. وفي هذا الإطار، أشار أحد صانعي القرار في العهد السوفياتي إلى أن الوضع الدولي الآن أخطر مما كان عليه في الحقبة الشيوعية، وذلك بسبب «غباء الشركاء» الغربيين، مؤكداً أن ما يجري ليس حرباً باردة، بل بوادر حرب عالمية ثالثة ساخنة ومتنقلة تلوح في أنحاء مختلفة من بقاع الأرض. وأكد المصدر ذاته أن بوتين سيمضي في اللعبة حتى النهاية، لكن ببطء.