بضع ساعات لا غير، كانت ستعيد تشكيل مصير الشرق الأوسط والعالم كله؛ كل المآسي والحروب التي ذقنا مرارتها منذ حزيران 1967، ما كانت لتحدث، ولكان الاتحاد السوفياتي ما يزال قائماً، ولكانت الأنظمة الاشتراكية تعمّ العالم العربي.يضع ساعات، في حرب حزيران 1967، فصلت بين أوامر الكرملين التي صدرت للجنرال فاسيلي ريشيتنيكوف، قائد قوات الجو الاستراتيجية السوفيتية آنذاك، بإعلان حالة الطوارئ، والقيام بقصف مواقع الجيش الإسرائيلي ومفاعل ديمونة النووي، وبين الأوامر المعاكسة بإنهاء حالة الطوارئ ووقف الضربة التي كانت ستقضي على انتصار الإسرائيليين السهل ضد ثلاث دول عربية، والتسبب في مأساة لجوء جديدة، وما تبعها من مآس لا نزال ندفع ثمنها الباهظ.

تصوّروا لو حدث ذلك؛ لم تكن الولايات المتحدة، بالطبع، لترضى بتوجيه ضربات نووية للأهداف الإسرائيلية، كما كان مقرراً لدى الكرملين لمحو إسرائيل عن الخارطة؛ كان الخط الساخن سيعمل فوراً، ويرتد المحتلون، وتُجبر الدولتان الأعظم، الطرفين، العربي والإسرائيلي، على التوصل إلى حل معقول، إن لم يكن عادلاً، للقضية الفلسطينية؛ سياسياً، كانت الموجة الاشتراكية ستعمّ العالم العربي، وما كانت هناك فرصة لبروز الإسلام السياسي من أصله.
تراجع الكرملين عن قراره الثوري الاستراتيجي في اللحظات الأخيرة كان كارثة أصابت العرب وحركتهم القومية واليسار العربي ومنحت الفرصة لعودة النفوذ الرجعي للتحكم في المنطقة، وأخيراً، أوقعت، مع عوامل أخرى، الاتحاد السوفياتي نفسه في وهدة السقوط.
كان فيلسوف الاستراتيجية الأعظم في كل العصور، فلاديمير لينين، يربط بين مقولتين تلخّصان كل الممكن في الانجاز السياسي: (1) أمس لم يكن الوقت مناسباً، وغداً سيكون قد فات؛ اليوم!» (2) الجرأة ثم الجرأة ثم الجرأة. وهاتان المقولتان هما اللتان غابتا عن عجائز الكرملين في حزيران 1967. وبدلاً من الحسم، وتغيير المعادلات، بادر السوفييت إلى إعادة تسليح النظام الناصري على نحو غير مسبوق؛ صحيح أن هذا التسليح، مع خبرائه وطياريه، ساهم في انتصار 1973، لكن النتائج السياسية كانت قد أفلتت من أيدي موسكو.
أخشى أن روسيا القومية الصاعدة، بقيادة فلاديمير بوتين، تذهب نحو تكرار الخطأ نفسه؛ فقد نقل تلفزيون «الميادين» عن مصدر دبلوماسي روسي في واشنطن أن روسيا لن تتدخل عسكرياً في سوريا بشكل مباشر، لكنها ستزوّد سوريا بطائرات حربية ومروحيات ومنظومة صواريخ «اس 300»، وتدريب السوريين عليها، «إذا قام التحالف الأميركي بالعدوان على الجيش السوري»؛ عندها، ماذا سينفع كل ذلك؟ لماذا الـ «اس 300» ليس موجوداً في سوريا فعلاً، ولماذا لم يتم تدريب السوريين عليها حتى الآن؟
المعادلة الآن واضحة تماماً:
ـــ هناك حلف أميركي ـــ غربي ـــ عربي بدأ بشن غارات في العمق السوري من دون استئذان الحكومة السورية، مما يعد انتهاكاً واضحاً لسيادتها؛ صحيح أن هذه الغارات لم تستهدف مواقع للجيش السوري حتى الآن، ولكنها تبدو معنية بتدمير البنى التحتية السورية أكثر من استهداف بضع عشرات من الدواعش، كما أن الولايات المتحدة وحلفاءها يحضّرون جيشاً طائفياً ليحل محل «داعش» في مناطق سيطرتها لتحقيق التقسيم السياسي ـــ الطائفي سواء في العراق أم سوريا. الحرب طويلة، وسنفترض أنها لن تمس الجيش السوري، ولكن الفاتورة السياسية التي ستكون دمشق مضطرة لتسديدها، ستكون باهظة ومتعارضة مع الصعود القومي الروسي.
ـــ اقتراحنا يكمن في العودة إلى لينين؛ نحن لا نريد أن يشتبك الجيش الأحمر مباشرة مع الإرهابيين، ولكنه يستطيع أن يملأ الفراغ الساحلي، بما يمكّن قوات سورية إضافية من مجابهة الإرهابيين، كذلك، يمكن للطيارين الروس أن يساهموا في قصف مواقع «داعش» كما تفعل واشنطن وباريس ولندن، تحت يافطة القرار الدولي 2170، وبطلب من الحكومة السورية.
ـــ هذا التدخل جوهري على المستوى الاستراتيجي من أجل تأكيد موازين القوى الجديدة على المستوى العالمي، ولجم العدوانية الأميركية، وتسريع التوصل إلى حل سياسي للقضية السورية.
... ثم نأتي للحرس الثوري الإيراني؛ نحن نعرف جيداً المساعدات المتعددة المستويات التي تقدمها إيران للجمهورية العربية السورية، لكن الحرس الثوري، فيلق القدس، ينبغي أن يحضر علناً في جنوبي سوريا، يدعم ويساهم في الطلعات الجوية، ويضع حداً للطموحات الإسرائيلية في إقامة جيب في الجولان المحتل.
الخطوتان، الروسية والإيرانية، مطلوبتان اليوم ـــ وليس غداً ـــ ومطلوبتان من أجل تعديل موازين القوى لمصلحة موسكو وطهران بأكثر مما هما مطلوبتان لتحسين موقف النظام السوري.
اللقاء الحار بين الزعيمين بوتين وروحاني، قمة دول بحر قزوين في مدينة استراخان الروسية، يغيظ الغرب حتماً، ويؤكد على رفض البلدين الحملة العسكرية في العراق وروسيا، وتشككان، عن حق، في نواياها؛ لكن موسكو وطهران لا تزالان تناقشان الخطر الداهم من منظور الجماعية ورعاية الأمم المتحدة، وضرورة مشاركة إيران وسوريا في التحالف ضد الإرهاب «في إطار شرعي»، و«الكف عن تقديم مساعدات للجماعات المسلحة في البلدين»، مع الإشارة السياسية البالغة الأهمية إلى «اتخاذ اجراءات لطمأنة المكوّن السني في المجتمعين العراقي والسوري».
كل ذلك، على صعيد المواقف السياسية، رائع؛ ولكن من دون دعمه بالجيش الأحمر والحرس الثوري، يظل قابعاً في ملفات المواقف الأخلاقية، ولا يغير المستجدّات الاستراتيجية.
«التنسيق الروسي الايراني يجري على مستوى عال، وفي مجالات عدة؛ مرحبا بالتحالف، لكن هل هناك أهم من سوريا بالنسبة للطرفين المتحالفين؟