في الثالث من تشرين الأوّل (أكتوبر) 2001، أطلق رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون، مقولته المشهورة: أريد أن أقول لكم بوضوح تام، لا تهتمّوا بالضغوطات الأميركيّة على إسرائيل، فنحن، الشعب اليهوديّ، نتحكّم بأميركا، والأميركيون يعرفون ذلك. لم نسمع من أيّ مسؤول في بلاد الشياطين الجُدُد أيّ نفيٍ لهذا التصريح، بل بالعكس، يُواصل صنّاع القرار في واشنطن، من المستويين السياسي والأمني، التزّلف لهذه الدولة المارقة والمُعربدة.
وبات النفاق الأميركي لإسرائيل رياضة وطنيّة يُمارسها الساسة في البيت الأسود وفي جميع المؤسسات الرسميّة، بلا خجلٍ أو وجلٍ. ذلك أنّ المشروع الإمبرياليّ، الذي تقوده الولايات المتحدّة وتُشكّل رأس حربته، تتقاطع مصالحه التكتيكيّة والاستراتيجيّة مع المشروع الصهيونيّ الكولونياليّ، الذي تُمثله دولة الاحتلال، والقاضي بتفتيت الوطن العربيّ، وتكريس تبعية الدول، أوْ بالأحرى شبه الدول العربيّة لهذا المُخطط الشيطانيّ، بحيث يكون النظام الرسميّ في هذه الدولة أوْ تلك، أداة طيّعة لتنفيذ المآرب الإمبرياليّة والصهيونيّة، مثل الإمعان في نهب ثروات الشعوب، والتمادي في إفقارها، لكي تصبّ جلّ اهتمامها، أيِ الشعوب العربيّة، على كيفية وآلية الحصول على رغيف الخبز ولقمة العيش.
بات النفاق الأميركيّ
لإسرائيل رياضة وطنيّة يُمارسها الساسة في البيت الأسود

والفقر يُسبب الإحباط، فمن ناحية يدفع العربيّ إلى «التطرّف» الإسلاميّ، أوْ بالأحرى المُتأسلم، أوْ أنّه يتبنّى من حيث لا يدري شعار السيّد المسيح، عليه السلام والقائل أعطنا خبزنا كفاف يومنا. وفي الحالتين إرهاصات هذا الأمر وتبعاته وتداعياته تؤكّد المؤكَّد: الناطق بالضاد يبتعد عن المُقاومة، مُقاومة المستعمِر، لأنّ الهدف الرئيسيّ لتل أبيب وواشنطن وزبانيتهما، هو إنتاج أمّة عربيّة من المُحيط إلى الخليج، ضعيفة، مسحوقة من جميع النواحي، بعيدة ألف سنة ضوئيّة عن العمل من أجل التحرر من نير النيو - استعمار. وفي الحالين، الرابح الأكبر هو أميركا، وطبعاً الحبيبة الربيبة إسرائيل.

■ ■ ■


بكلماتٍ أخرى، دول التبعيّة المُطلقة للاستعمار، تُعَدّ الوسيط بين الإمبرياليّة والصهيونيّة وبين المواطن، مع أنّ المواطنة في هذه الدول العربيّة، ما زالت قيد البحث، من أجل تحويل العربيّ إلى متلقٍّ فقط، فاقد لزمام المُبادرة. ومن هنا، وهذه وجهة نظر قابلة للنقاش، يُمكن تفسير عدم ارتقاء الشعوب العربيّة إلى مستوى الحدث، عندما تعرّضت غزّة هاشم أخيراً لمذبحةٍ جديدة، نفّذها جيش الاحتلال الإسرائيليّ، بدعمٍ أميركيّ وبتواطؤٍ عربيّ وإسلاميّ، وحتى فلسطيني. ذلك أنّ السلطة الفلسطينيّة، وهي من إفرازات اتفاق أوسلو المنكود، التي ترى التنسيق مع الاحتلال مُقدّساً، وتعيش على فُتات المعونات الأميركيّة، هي جزءٌ أساسي من هذا المشروع، وبالتالي نقول ولا نفصل ولا نجزم: عندما كانت آلة الحرب الإسرائيليّة تقتل الأطفال الرُضّع والنساء والمُسنّين في قطاع غزّة، مستخدمةً الأسلحة الفتاكة، والأسلحة المُحرّمة دولياً، حافظ الفلسطينيون في الضفّة الغربيّة على الهدوء، ولم يتظاهروا للتعبير عن رفضهم المُطلق لقتل أبناء جلدتهم في القطاع، فيما كانت قوات الأمن الفلسطينيّة تقمع كلّ تظاهرة، ولا نقول تظاهرة، في أرجاء الضفّة الغربيّة المُحتلّة تضامناً مع غزّة، أمّا في مناطق الـ48، وهو الضلع الثالث للفلسطينيين، فقد تحدّت الجماهير العربيّة عنصرية الدولة العبريّة، وتظاهرت، ودفعت هذه الجماهير الثمن على الصعيد الشخصيّ وأيضاً على الصعيد الجمعيّ. إذ إنّ الأجهزة الأمنيّة في «واحة الديموقراطيّة الوحيدة بالشرق الأوسط» قمعت التظاهرات بقسوةٍ بالغةٍ، ونفّذت الاعتقالات، ومن الناحية الثانية، باشر الشعب «الجالس في صهيون» بحملة مقاطعة اقتصاديّة للمحال التجاريّة في الداخل، لأنّ أصحابها ارتكبوا خطيئةً مُميتةً بتعبيرهم العلنيّ عن رفض العدوان الآثم على غزّة. وهنا دخل الإعلام العبريّ على مختلف مشاربه طواعية من أجل التحريض الأرعن على أصحاب الأرض، واتهامهم بالتضامن مع «الإرهاب الفلسطينيّ». وبما أنّ الإسرائيليين كانوا وما زالوا متلهفين لكره العرب، فإنّهم تلقّفوا هذه الحملة التحريضيّة السافرة بفرحةٍ عارمةٍ، وهكذا بات الرأي العام في دولة الاحتلال يُطالب بمعاقبة «الطابور الخامس». وعلى الرغم من العنصريّة المؤسساتيّة والشعبيّة، كان الردّ الفلسطينيّ في الداخل حازماً وجازماً، فحملات الإغاثة للمنكوبين في قطاع غزّة ما زالت مُستمرّةً من الجليل إلى النقب، مروراً بالمُثلث، المعروض بالمزاد العلنيّ لضّمه إلى الدولة الفلسطينيّة العتيدة. وفي هذه العُجالة لا بدّ من الخروج قليلاً عن السياق العام، والتأكيد أنّ مَنْ يزعمون أنّهم يُمثّلون الشعب الفلسطينيّ، وافقوا خلال المفاوضات غير المحدودة زمنياً، مع «العدو» الإسرائيليّ على مبدأ تبادل الأراضي، وحاز هذا الكرم الحاتميّ من سلطة أوسلوستان على دعمٍ من الرباعية الدوليّة (الأمم المتحدّة، أميركا، روسيا والاتحاد الأوروبيّ)، وبطبيعة الحال من أقطاب دولة الأكثرية اليهوديّة، إسرائيل. ومن هنا لا يستغربنّ أحدٌ إذا طالبت إسرائيل بتطبيق مبدأ التبادل على الأرض وعلى السكّان، وهو مطلبٌ من المُرجّح موافقة الأطراف الدوليّة عليه. والمسألة الغريبة إلى حدّ الخزي أنّها عملية تبادل أراضٍ عربيّة بأراضٍ عربيّة! ولكنّ القيادة الفلسطينيّة تتصرف وكأنّها تُحرر أرضاً!

■ ■ ■


مُضافاً إلى ما ذُكر أعلاه، فإنّ الكومبرادور الفلسطينيّ، وتحديداً في الضفّة الغربيّة، هو لبنة أساسيّة ومهمة في تنفيذ المشروع الإمبرياليّ - الصهيونيّ، القاضي أيضاً بتدمير الاقتصاد الفلسطينيّ وجعله متعلقاً بإسرائيل، ورموز هذه الفئة، يُقيمون علاقات اقتصاديّة تطبيعيّة على المكشوف مع الرأسماليين الإسرائيليين، ويعقدون اللقاءات الدوريّة في المحتّل عام 67، بهدف ترتيب الأوراق لتدمير المُدمّر، وتحويل المواطن الفلسطينيّ إلى عبدٍ لهذه المُخططات، لأنّه، هو الآخر، يبحث عن لقمة العيش، وعندما يتحوّل هذا المواطن وتلك المواطنة إلى رهينة بأيدي الكومبرادور. فبطبيعة الحال، يبتعد منطقياً عن المُقاومة، بجميع أشكالها، من المُقاومة الشعبيّة وحتى المُقاومة المُسلحة ضدّ الاحتلال الإسرائيليّ الجاثم على صدور الشعب العربيّ الفلسطينيّ. ولا نتجنّى على أحد إذا جزمنا بأنّ الكومبرادوري يستوي اليوم في بلادنا مع مرتبة العميل، ومصطلح «comprador» كانت تعني في الأصل المواطن الصينيّ الذي يعمل وسيطاً أوْ وكيلاً في خدمة الأوروبي - المستعمِر، وانتشر بعد ذلك في بعض أدبيات الماركسية، ويُقصد بالوكيل التجاريّ كلّ شخص يقوم باستيراد البضائع الأجنبيّة وتسويقها في بلاده أوْ بتقديم العطاءات أو الشراء أو التأجير أو تقديم الخدمات باسمه لحساب المنتجين أو المُوزّعين الأجانب ونيابة عنهم، وذلك بهدف الربح، وعلى حساب الإنتاج الصناعيّ الوطنيّ المحليّ، وكذلك على حساب القضايا الوطنية الكبرى. علاوة على ذلك، فإنّه خلافاً للتعريف الأصليّ للكومبرادور، فإنّه في فلسطين تحديداً، يتمتّع الكومبرادوري بدعمٍ كاملٍ من السلطة السياسيّة، ذلك أنّه يقوم بأداء الدور المرسوم له في تفتيت المجتمع الفلسطينيّ والإسراف والإفراط في إفقاره وإذلاله، كذلك فإنّه يُكلّف من قبل الحاكم بأمر أوسلو، في مُحاولة ترتيب البيت الفلسطينيّ، والزعم أنّه يفعل ذلك من أجل إيصال الشعب الفلسطينيّ إلى برّ الأمان والحصول على حقّه في تقرير مصيره. وهذا الهراء، للأسف الشديد، يجد من يُروّج له من الطابور السادس الثقافيّ. وللتنويه فقط، أحد أبرز رجال الأعمال الصهاينة، رامي ليفي، الذي يُقيم المشاريع التجاريّة مع الكومبرادور الفلسطينيّ، أعلن خلال العدوان الإرهابيّ الأخير على غزّة، أنّه سيُقيل العمال العرب المسحوقين في شركاته، وطلب من اليهود الاستعداد لملء الفراغ. ورامي ليفي هو الذي مشى في شوارع نابلس بصحبة عمرو موسى، الذي هو اليوم من أعمدة الحكم في مصر، ومع المليونير الفلسطينيّ منيب المصريّ وأشباههما. لذلك، تقوم السلطة السياسيّة، وفي حالتنا، السلطة الفلسطينيّة، بالتعاون والتنسيق معه، مع الكومبرادور، لأنّ الفئتين تخدمان المشروع الإمبرياليّ - الصهيونيّ الهادف إلى القضاء كليّاً على مُقاومة الاحتلال، وهذا هدف تكتيكيّ، أمّا الهدف الاستراتيجيّ، فيكمن في الإجهاز على ما بقي من فلسطين.

■ ■ ■


وعودٌ على بدء: بما أنّ إسرائيل تتحكّم في أميركا، كما قال السفّاح شارون، فإنّ المشروع الإمبرياليّ يتعدّى حدود فلسطين التاريخيّة، فالحلف الذي تعكف واشنطن على تشكيله لمحاربة صنيعتها «الدولة الإسلاميّة»، هدفه، باعتقادنا المتواضع جداً، أبعد من القضاء على الدولة السوريّة المُانعة والمُقاومة، والتي تُعتبر بحقٍّ وحقيقةٍ آخر معقل للعروبة. إنّهم يُريدون تصفية حزب الله اللبنانيّ، الذي يقضّ مضاجع الثالوث غير المُقدّس: أميركا وإسرائيل والرجعيّة العربيّة. وهذا المُخطط ربّما وجدنا له التفسير في التصريحات الإسرائيليّة الأخيرة عن تعاظم قوّة حزب الله العسكريّة، وعن امتلاكه أكثر من مئة ألف صاروخ تجعل من كلّ بقعة في دولة الاحتلال في مرماها. فكيان الاحتلال، لا يقدر على التعايش لفترةٍ طويلةٍ مع تهديد استراتيجيّ، أيْ حزب الله، تماماً مثلما أنّه لا يتحمّل العيش في كنف القنبلة النوويّة الإسلاميّة، كما يُطلقون على المشروع النوويّ الإيرانيّ، جهابذة الكتّاب والمُحللين والسياسيين والعسكريين في إسرائيل، ولكنّ الفرق بين التهديد الإيرانيّ وتهديد حزب الله، يكمن من وجهة نظر الإسرائيليين، في أنّ حصول إيران على القنبلة النوويّة، سيؤدّي عاجلاً أو أجلاً، إلى هروب «بني صهيون» من «أرض الميعاد»!
* كاتب فلسطيني