شكل رحيل السيد هاني فحص صدمةً لكثيرٍ من متابعي الرجل، سواء أكانوا منتقدين أم مؤيدين. شهدت حياته مفاصل ومحطات مهمة من الطائرة التي حملت قائد المقاومة الفلسطينية أبو عمار لزيارة الإمام الخميني المنتصر في ثورته الإسلامية عام 1979، إلى موقفه المعارض "الدائم" لمواقف إيران و«حزب الله» في لبنان. ومن المؤيِّد الكامل وحتى المنضوي في لواء حركة «فتح»، إلى معارض لها، ولو حافظ على هامش حريةٍ في تلك العلاقة لم يجده في علاقته مع «حزب الله» مثلاً.
ابن بلدة جبشيت وإمامها بين 1972 و1975، برز بدايةً بعلاقته المدهشة مع الختيار (أبو عمار). فالقائد الفلسطيني المحنّك كان يعرف بحكمة الجيوسياسي أن العصر القادم هو عصر الثورة الإسلامية، فلماذا نعاديها؟ هكذا، كان على متن أول طائرةٍ متوجهة إلى إيران بعد انتصار ثورتها، ولأّنه لم يكن ذا علاقاتٍ حميمةٍ مع الخميني، سرعان ما تنبه إلى وجود فحص وأهميته. الشيعة اللبنانيون، وإن كانوا خلال مراحل طوال ذوي علاقاتٍ أقوى مع حوزة النجف، إلا أنهم عرفوا أيضاً التواصل مع حوزة قم ومرجعيتها. كان السيد فحص هو الشخص الذي انتدب لردم أي هوةٍ تحصل بين الرجلين: القيادي الفلسطيني ذو الشخصية الشديدة المرونة، والإمام المنتصر بصلابته المعروفة وعدم حياديته في أي أمر. قام فحص بتلك المهمّة على أكمل وجه، فحمل أول رسالةٍ بين الرجلين (كانت من أبو عمار يرثي فيها نجل الخميني)، وكان فحص ــ بحسب كلامه ــ هو الذي يكتب تلك الرسائل، ويوقع عليها أبو عمّار (لم يُنفَ الأمر من منظمة التحرير أو «فتح»). وكان في الوقت نفسه شاهداً على "انتهاء" شهر عسل العلاقة، حين حاول أبو عمار (بحسب كلام السيد فحص في مقابلة له على قناة «الجزيرة») أن يتدخل في شأنٍ إيراني داخلي، فهل كانت تلك المحاولة هي التي أنهت الأمر؟ (أبو عمار يعرف تماماً أن الخميني لم يكن يحب أن يتدخل أحدٌ في شأنٍ داخلي). آثر فحص الابتعاد عن دور الوسيط ساعتها، خصوصاً أن القائد الفلسطيني كان تحت ضغوطٍ عربية تدفعه بعيداً عن فلك الإمام. رغم كل ذلك، بقي فحص رجلاً أساسياً لدى أبو عمار الذي ظل يكنّ له مكانةً كبيرة حتى وفاته، وظلت "فتح" تعتبر فحص جزءاً من نسيجها، وهو لم يخفِ ذلك قطّ، فتحدث في أكثر من لقاءٍ إعلامي عن علاقته بالمنظمة، وإن لم يشر إلى بقاء ذلك الرابط/ الارتباط بشكلٍ فعلي أبداً وبحسب قوله: "لدي مطرح فيها بغض النظر عن شكله".
السيد النشيط وذو الحراك الدائم سياسياً ودينياً وتقريبياً بين المذاهب والأديان (عضو في أكثر من جمعية ولقاء ومؤسسة للتوحيد والتقارب بين المذاهب والأديان) جلس منذ عام 2007 في منزله، حزيناً غاضباً، لا يعرف كيف يتحرّك لأنه وفق قوله كان يشعر بأن منزله يتهدّم، وبأن "لا مكان له". قسا بعد ذلك في حواراته ولقاءاته ــ هو المعروف باللين والطيبة الشديدة ــ في نقده لإيران و«حزب الله» و«حركة أمل». وإبان الربيع العربي، أخذ موقفاً سريعاً ــ ربما لشدة محبته للشعوب وللحرية ــ مع الشعوب، وكان قاسياً كذلك ــ وبسرعة ــ مع النظام السوري، تلك المواقف جعلت جميع أطراف الوسط الشيعي ينظرون إليه بأنه فعلياً لا يغرد خارج السرب فحسب، بل إنه يُضعف السرب ويُنهكه، فقيمته العلمية والدينية، فضلاً عن مكانته "التقديرية" تجعله رقماً مهماً داخل البنيان الشيعي، ما خلق نوعاً من الحساسية في تلك العلاقات، وما كان يقول عنه بأنه "مودةٌ ونقد" في العلاقة مع «حزب الله» و«حركة أمل»، تحوّل إلى «هجومٍ» علني بعد ذلك من خلال رسالة "قاسية" وجهها في جريدة «الرأي» الكويتية إلى «حزب الله»، مشيراً إليهم بأنهم "إخوةٌ" كانوا "أحبةً"، منتقداً سلوكات الحزب بشكلٍ مباشرٍ وحاد، لتدخله في سوريا، وعلى بعض الأخطاء الأخرى الداخلية والخارجية.
يرحل السيد فحص اليوم، تاركاً فراغاً كبيراً، وهو وإن اختلفت معه أو أيدته، يظل رجلاً عالماً، متبحراً، قيّماً، يمتلك مخزوناً ثقافياً هائلاً وقلباً رقيقاً طيباً، وهي ميزاتٌ لا تحتاجها السياسة وآخر ما يفكر فيه السياسي، اللهم إلا ما ندر!