حالما تدخل «دار الندوة» في بيروت تتصبَب عرقاً. الحرارة مرتفعة وليس في القاعة الكبيرة سوى مروحة هوائية توحي بأنها تلطِّف الجو، ولكنها لا تفعل. يتوزع الحاضرون على كراس بلاستيكية. ترتفع امامهم منصة خشبية أكل الدهر عليها وشرب. يرتفع فوق المنصة ميكروفون قديم، وآخر لقناة «المنار». كل هذا الفقر يوحي بأن الموضوع عن العروبة، وان الحاضرين هم ممن تمسّكوا بها فما أثروا ولا اغتنوا. هكذا صار حال العروبة في زمن انتعاش المذهبية المقيتة والتذابح والفساد والنهب، لكن الأمل باق.
لا شيء يلطِّف هذا المشهد الفقير والحرارة المرتفعة في القاعة، سوى كلام رجل متوسط القامة، نحيل الجسد، رخيم الصوت، منخفضه، مرفوع الراس، شامخ كالعنفوان. لا شيء يلطفه كذلك سوى كلمات الحب والتقدير والعرفان، التي انطلقت كنسمة ربيعية في صباح بيروتي دافئ من أفواه رفاق ومحبي المحتفى به المتوزعين على الكراسي الفقيرة. ولو نسي بشارة مرهج او زياد الحافظ او توفيق مهنا او معن بشور او مصطفى حمدان او محمد المجذوب شيئاً من تاريخ الرجل، فان محمود قماطي ممثلاً حزب الله والمقاومة، او فتحي ابو العردات ممثلا فتح والمقاومة الفلسطينية، يكمل ما نقص.
ليس المحتفى به رجلا خارقا ولا سوبرمان ولا استثنائيا. هو، ببساطة، أحب عروبته فدافع عنها تحت صواريخ عدوها الاسرائيلي، وأحب بيروته فصمد فيها برغم الحرب التي شنها عليها عدوها الغاشم عام 1982، وأحب فلسطين، فامتزج عرق نضاله بعرق رفاقه الفدائيين الفلسطينيين، وآمن بزعيم العروبة جمال عبد الناصر فتبنى نهجه، وكره الطائفية ومحاولات التقسيم فقاتل أربابها ودعاتها في لبنان. كان قتال اسرائيل مفخرة، وقتال عدو الداخل ورطة لا بد منها.
ولأنه أحب عروبته وبيروته وفلسطينه، هو اللبناني البيروتي الأصيل، المجاور بيته في عين المريسة تمثال عبد الناصر، لم يقصِر حبه لها على القتال. تمتع بفيروزها ووديعها ، وبصوت صباح فخري المتسلل حبا اليها من دمشق، وبكى حين غنت ماجدة الرومي «ست الدنيا يا بيروت».
بهذا الحب تحدث المناضل البيروتي في «دار الندوة» أول من أمس، وبحب مماثل تذكّر رفاقه المحطات المضيئة حين كان ينتقل من بيت الى بيت في بيروت المحاصرة مع مناضلين آمنوا يوماً بأن العروبة ليست فولكلورا ولا ترفا، وصدقوا ان الزعيم جمال عبد الناصر ليس مشروعاً عابراً.
أما الحاضر المثخن بجروج المذهبية والاقتتال وضياع فلسطين، فلا تنقذه سوى العروبة والمقاومة وعودة الدولة. هكذا، ببساطة، وبحب وبعنفوان، كان الجسد النحيل يشمخ بكلمات الثقة ليقول ان انقاذ الامة لا يزال ممكناً...
شكرا لمنير الصياد ورفاقه في الغرفة الفقيرة والتاريخ الغني... تاريخ الزمن الجميل حين كانت العروبة، تماما كما قال، تجبُّ كل المذاهب والطوائف فلا نعرف ان كان منير الصياد سنيا او شيعيا او مسيحيا او درزيا، بل نعرف فقط انه عربي يؤمن بغد افضل... ويحب الحياة. ولا تزال الحياة تليق بك ايها العروبي النبيل برغم العمر ووهن الجسد.