كانت TANBAK (الاسم الفني المختصر لاسمها الحقيقي تانيا باكاليان) طفلة حين كانت ترى كيف يعيش اللاجئون الفلسطينيون في مخيم الكرنتينا خلال طريقها إلى مكان عمل والدها. وكان الوالد يذكّرها بأنهم عاشوا تجربة مماثلة بعد هروبهم من المذابح التي ارتكبها العثمانيون بالأرمن عام 1915. الرسامة اللبنانية ذات الأصول الأرمنية وسّعت حدود هويتها البديهية بعد ارتطامها بهذه الحالة المماثلة لتاريخها.
الجروح من هذا النوع تؤلف صلاتٍ عابرة للهويات، وتجعل الهوية نفسها منفتحة على ثقافة منفتحة بدورها. وربما كان في اسمها المختصر هروباً من التصنيف الفوري والمباشر باتجاه مُوَاطَنة ذات شمولية وثراء أكبر، ولكن ذلك لم يُعفِها من فكرة أنها في مكان موقت، أو على الأقل لم تعد في مكانها الأصلي، خصوصاً أنها نشأت في أحياء وأجواء مماثلة في منطقة برج حمود وجوارها.
معرضها الجديد In Transit الذي افتُتح أخيراً في «غاليري أجيال» هو ترجمة أو ترجمات عدة لهذه الفكرة المنفذة على شكل تجهيز معماري داخل إطار اللوحة العادية. 16 قطعة متماثلة تقريباً في المواد والعناصر التي وُضع بعضها لصق بعضها الآخر كاستعارة للبناء العشوائي والمرتجل الذي تتصف به المخيمات وأمكنة اللجوء والأحزمة البائسة للمدن أيضاً.
أشكال حجرية مصنوعة من مواد هشة ذات لون أبيض كلسي، تتخللها بقع قليلة ملونة تكسر البياض الشامل الذي قد يُذكر زائر المعرض بأنه يرى مقبرة مثلاً. المقبرة بمعناها المجازي ليست شيئاً مستبعداً على أي حال إن تخيّلنا نمط الحياة اليومية المزرية لتي تحدث في أمكنة موقتة وفقيرة مماثلة.
ما نراه في المعرض هو بحث سياسي وسوسيولوجي ومعماري أكثر من كونه معرضاً عادياً. كما أن الرسامة نفسها نجحت في تأويل الفكرة بجعل الماكيتات المعروضة مرئية من الأعلى أو ما يُسمى نظرة عين الطائر، وبات بإمكانها تعليق هذه الماكيتات كلوحات نافرة، وليس كمنجزات معمارية أو منحوتة.
الاكتفاء بالأشكال الهندسية المصغّرة لما يُفترض أنه أبنية عشوائية لا يحجب البشر الذين يعيشون فيها، وإن كانوا غير مرئيين طبعاً. هناك نوع من الاقتضاب والحيادية في عرض التجهيز.
لا تلعب الفنانة على ميوعة الكليشيهات الجاهزة المتعلقة بضحايا الحروب والنزاعات الأهلية المسلحة، بل تكتفي بأقل ما يمكن من الإشارات التي تدل على وجودهم ومعاناتهم. النزوح الكثيف لللاجئين السوريين أحيا ذاكرتها كضحية لتهجير أول من إبادة جماعية، وكشاهدة لاحقاً على نزوح فلسطيني، قبل أن تجد في النزوح السوري الحالي حلقة جديدة في تاريخ الحروب وضحاياها.
هذه معطيات تتدخل بقوة في صياغة البحث عن المعنى السياسي والإنثروبولوجي لفكرة اقتلاع الإنسان من أمكنته الأولى والأصلية، وجعل حياته نهباً لاضطرابات متحالفة مع اضطراب الهوية نفسها واصطدامها بهويات تتعامل معها بنوع من الريبة والدونية وأحياناً العنصرية تجاه الغرباء، وما ينتج من ذلك من تباينات حادة في نوعية العيش الجديدة.

بحث سياسي وسوسيولوجي ومعماري أكثر من كونه معرضاً عادياً
فكرة المعرض تغطي أيضاً التهجير الداخلي في مناطق النزاعات داخل الدولة الواحدة. لكن الأهم من ذلك أن الفنانة رفعت هذا السياق الخطابي والمباشر إلى مستوى «عابر» للأحداث الجارية. كأن فكرة العبور في عنوان معرضها توثّق للإقامة الموقتة والإجبارية التي تفرضها النزاعات، لكنها تتحوّل إلى ممارسة فنية يمكن أن تُستثمر فيها إمكانيات ووسائط مختلفة داخل التجهيز والتأليف واللون. المعرض سردية مقترحة لتسجيل شهادات وتجارب لحركات وموجات النزوح القسري، ويتضمن ذلك موجات النزوح الريفي إلى أطراف المدن الكبرى، ونشوء أحياء كاملة من الأبنية والملاذات المعدة على عجل والمفتقدة لشروط السكن الطبيعي.
لقد اشتغلت تانباك سابقاً على موضوعات تاريخية ومفاهيمية، وعلى استثمار المواد البصرية والتعبيرات الجسدية، وعلى تأملات متأنية في مساحات التجريد، وخلطت ذلك مع البحث عن طبيعة الفن داخل التطورات المعاصرة للفرد والجماعات. وحالة «السكن الموقت» تبدو جزءاً من سلسلة أفكار متداخلة مع ازدهار الفنون المعاصرة. والتجهيز المعروض هو استعارة معاصرة تحظى بتأويلات وتشعبات وتحليلات عديدة.
كما أن روحية هذا النوع من الممارسات الفنية أنها تكتفي بلمحات وإيحاءات ملموسة، تاركة المتلقي في حالة بحث عن التفاصيل الغائبة والمرويات المحجوبة أو غير الظاهرة في العمل المعروض.
الموقت والعابر في فكرة المعرض هو بحث في الهوامش وسردياتها الإنسانية، وتأريخ لجروح البشر وهوياتهم القلقة ومصائرهم التي إن لم تكن حصيلة حروب وإبادات، فهي على الأقل حصيلة خيارات قسرية في الانتقال من أمكنة أولى وآمنة إلى أمكنة جديدة محفوفة بالخطر والريبة والاضطراب.

* «TANBAK: In Transit»: حتى 20 أيلول (سبتمبر) ـــ «غاليري أجيال» (الحمرا- بيروت). للاستعلام: 01/345213