على قدر ما كُتب عن المسار الانحداري لمؤسسات تيار المستقبل، منذ «هجرة» الرئيس سعد الحريري عقب استقالة حكومته، راكم العاملون في هذه المؤسسات انتقاداتهم وملاحظاتهم، حتى باتت أكبر من إخفائها تحت سقف المكاتب المكيّفة، وبرستيج «الأبهة»، الذي طبع صورة هذه المؤسسات منذ انطلاقتها. كان هؤلاء ينتظرون عودة الرجل بفارغ الصبر، لإفراغ ما في صدورهم أمامه، وخصوصاً أنه كان ممنوعاً على كثيرين لقاء «الزعيم» في منفاه الاختياري، أو الاتصال به مباشرة. حالما حطّت طائرة الحريري، فجأة، في مطار بيروت في الثامن من آب الماضي، ثارت التساؤلات بشأن تأثير هذه العودة على بنية مؤسساته التي أصابها الترهّل، وفتك بها الاهتراء. علّق كثيرون آمالاً كبيرة على اللقاءات التي جمعت رئيس تيار المستقبل بوفود كبيرة من الموظفين.

لكن سرعان ما تكشّفت الصورة، إذ لم تكن هذه اللقاءات أكثر من «حوار فضفاض في السياسة لا يرقى إلى مستوى الضعف الذي أصاب بنية المؤسسات»، بحسب كوادر مستقبلية قالت إن «الحوار مع الحريري تطرّق الى عمل المؤسسات الإعلامية والخدماتية وتأثيرها اجتماعياً واقتصادياً في جمهور المستقبل في أكثر من منطقة، ولكن دون أن يكون لهذه المراجعة وقع جدي على العاملين». وأوضحت المصادر نفسها أن رئيس الحكومة السابق «لم يتجاهل ما وصل إلى مسامعه طيلة السنوات الثلاث التي قضاها خارج لبنان، وأقرّ بأن الأمور في حاجة إلى تحسينات... وكفى، من دون أي اقتراحات جدية». وتخلص المصادر الى أن الحريري «باع الشباب سمك بالبحر»!

باع الحريري
العاملين «سمكاً في البحر» والإصلاح ليس
بين أولوياته


إذاً، النتيجة الأولية للقاءات تؤكد أن العودة غير الثابتة لن تُغير كثيراً في الصورة الداخلية للمؤسسات الإعلامية والخدماتية، أقلّه في الشهور القليلة المقبلة. يُواسي الموظفون أنفسهم بفكرة، أن «الشيخ» سعد «أتى وغادر على عجل، ولم يكُن لديه متسّع من الوقت لتصحيح كل الاعوجاجات». أما من فازوا بفرصة لقاء سريع معه قبل سفره، فقد خرجوا بخلاصة واضحة: «إعادة الأمور إلى نصابها داخل مؤسسات التيار لا تدخل ضمن أولويات الرجل في المدى المنظور. فلا هو عاد بجدول أعمال واضح، ولا ظروفه تسمح بإجراء نفضة تصفّي حسابات مع هذا، أو تعزّز موقع ذاك».
يعرف الحريريون أن تيارهم قائم على الإعلام والخدمات، بقدر ما يعرفون أن التململ الواضح في قاعدتهم الجماهيرية سببه الشحّ المالي الذي ضربهم منذ عام 2009. إعادة فتح «حنفية» الخدمات والصرف المالي تمثل ضرورة ملّحة لتعود لتيار المستقبل مكانته في الشارع السني. والصدمة الإيجابية التي حققتها عودة الحريري رفعت منسوب الأمل، الذي ظهر أول مرة مع «إعادة دفع الرواتب بانتظام، وعودة الخدمات المستقبلية عبر البوابة الطرابلسية بقيمة مليون ونصف مليون دولار». لذلك، يتفاءل منسّقون مستقبليون بأن «الأمور ستذهب نحو الحلحلة، وإن كانت تحتاج إلى بعض الوقت». ويبرّرون ذلك بـ«الدعم السعودي للأجهزة الأمنية بمقدار مليار دولار بهدف محاربة الإرهاب والإمساك بالأرض». و«الإمساك بالأرض» يعني، في رأي هؤلاء، «تعزيز تيار المستقبل من القاعدة إلى رأس الهرم»، ما يستدعي «إعادة تنظيمه وهيكلته وتفعيله وضخ دماء جديدة في شرايينه، بعدما أصبحت مؤسسات المستقبل أشبه بمؤسسات الدولة: نصفها تنفيعات، ونصفها الآخر بطالة مقنّعة». ويشّدد بعض هؤلاء على أن «مشروع النهضة» يجب أن ينطلق من المناطق الساخنة التي كان للتيار ثقل فيها، صيدا والبقاع وعرسال وطرابلس، أولاً «نظراً الى معاناتها»، وثانياً «لأنه أصبح من الثابت أن هناك علاقة متوازية بين الحرمان الذي تعانيه هذه المناطق وسهولة اختراقها من قبل مجموعات متطرّفة».
لكنْ ثمّة مشكلتان أساسيتان لا تزالان تثيران شكوك كل من يأمل خيراً من الدعم السعودي. الأولى، بحسب المنسقين أنفسهم، «رفض المستقبل لإجراء انتخابات نيابية»، ما يؤشر إلى أن «مزراب المال الذي يُفتح عادة في مثل هذه الاستحقاقات سيبقى مقفلاً». والثانية «عدم وجود جدول أعمال متكامل لدى الرئيس الحريري لتعزيز وضع المؤسسات». ويوضح هؤلاء هذه المشكلة انطلاقاً من «وجود قناعة لدى الحريري بأن مجردّ وجوده في لبنان يمكن أن يلملم الوضع ويستنهض الشارع، وأن دعم الجيش وقوى الأمن وحده سيكون كافياً لوقف التمدد الأصولي في الشارع السني»، علماً أن «بين العمل السياسي والإنمائي والأمني مساحات واسعة لا يُمكن التغاضي عنها، وكل منها يحتاج إلى خطّة متكاملة وتمويل خاص».
ليس في قدرة أي من المعنيين في التيار تقديم رؤية واضحة عن الواقع الذي ستكون عليه مؤسسات تيار المستقبل في المستقبل القريب. عاد هؤلاء الى مربع الانتظار، أملا في «عودة مفاجئة ثانية» للحريري «تُطرح خلالها الأمور على نحو أعمق وأدق».