يشكو نور الدين حسون، أحد مزارعي بلدة السفيرة، سوءَ حال الزراعة في بلدته. يشير إلى أن «السفيرة هي ثاني أكبر قرية في الضنية، وفيها أكبر نسبة متساقطات، لكنها أقل المستفيدين من المياه. فلا خزانات في القرية لحفظ مياه الشتاء، وقنوات الريّ مهترئة بمعظمها، ما أدى إلى إتلاف ما يقارب 60% من المزروعات فيها».
لا يخفي الرجل الذي تعلق بحقول الضنية وزراعاتها منذ كان مراهقاً، احتمال تخلي عدد كبير من الفلاحين عن مهنة الزراعة. يقول: «بتفوتي على الأرض بتشوفي الشجر لي عمرو فوق الـ100 سنة عم يذبل ويموت. يعني ما عاد همنا المحصول، صار همنا الشجرة! هيدا شقا عمرو الواحد، بيكون مكبّر الشجر متل إبنو، فجأة بتيبس من العطش. الله ما قالها! إذا السنة لي جاي رح تكون صعبة متل هل سنة، كتار من المزاعين ما رح يفلحوا أراضيهم».
في أحد الحقول المجاورة، مزارع يهز بيديه أغصان شجر الدراق. تتهاوى الثمار أرضاً ككرات ثلج كبيرة. يتركها على الأرض ويمضي، فيردف حسون: «شايفة كيف عم يهر الدراق عن إمو بس تهزي، هيدا كلو «تاخخ» لأن ما انسقا ميّ».
يرى خبير المياه محمد سعيد علوش، أن «المياه قليلة هذا العام بالمقارنة مع السنوات السابقة، إلا أنه لا تزال كميات كبيرة منها متوافرة في الينابيع. لكن سوء إدارتها، وعدم توزيعها على كافة قرى الضنية بنحو عادل، لا بل احتكارها من قبل عدد من الشبيحة ألحقت أضراراً بالغة بالمحاصيل الزراعية». يعدد المصادر التي تتغذى منها الضنية بالمياه، وهي: نبع السكر، نبع القسام، نبع سير، ونبع الزحلان، بالإضافة إلى عدد من العيون المتوسطة والخفيفة. يقول: «المياه عينها التي تستخدم للريّ، يشرب منها أبناء المنطقة. وهي نقية ونظيفة مئة في المئة. ويقول إن نبع السكر، أغزر الينابيع وأكثرها استخداماً، تتغذى منه بشكل أساسي كل من بلدة بقاعصفرين، السفيرة، جرود الضنية، قرصيتا، نمرين، بيت الفقس، الحازمية، وبطرماز. إلا أن حصة كل منطقة من المياه تختلف بحسب الأعراف المتبعة منذ سنين. مثلاً، تقاس نسبة الأراضي الزراعية في بلدة قرصيتا وتحدد وفقاً لحاجة البلدة من المياه، وتعطى على هذا الأساس». يضيف: «الشوائب التي تشكو منها بعض البلدات سببت عدم وصول الكمّ المتفق عليه من المياه. ففي إحدى القرى لم تكتمل بعد خطوط الجر، وفي آخرى لا قنوات ريّ حديثة تصل بينها وبين الينابيع، أو ما من وصلات لمياه الشفة كما حال بلدة قرصيتا، التي لا تزال منذ عام 1990 تنتظر استحداث شبكات لمياه الشفة فيها. ونتيجة لتلك المشاكل، اتفق المعنيون على بناء سد بريصا لإعادة توزيع المياه توزيعاً عادلاً تحت إشراف مصلحة مياه الضنية، لكن الأخير كان «عجيبة» من عجائب الدولة، وتحول من سد إلى «جورة» غير مهيّأة لحفظ المياه، فعادت المشاكل لتتفاقم، حتى صدق المثل القائل: «تيتي تيتي، متل ما رحتي متل ما جيتي».

شحّ المياه أدى
إلى وقوع مشاكل
بين المزارعين


وحديثاً، أضيفت أزمة أخرى إلى لائحة أزمات الضنية. مع ندرة مياه الري لجأ عدد من المدعومين إلى استغلال الأزمة لكسب المال الوفير، عبر احتكار مياه نبع السكر الذي ينبع من بلدة نمرين. وبناءً على ذلك، يقول أحد مزارعي البلدة إنه اضطر إلى دفع مبلغ 500 ألف ليرة لبنانية لقاء حصوله على مياه من النبع لري حقله لمدة ثلاث ساعات. ويوضح: «كنا نسقي حقولنا مرتين في الشهر لمدة أربع ساعات في كل مرة. كان كل مزارع يحصل على حقه من المياه بحسب الأعراف السائدة، التي يتولى شاوي من مصلحة المياه توزيعها. أما الآن، فقد سيطر المدعو م. ح. على مياه النبع كله. يعطي منها من يشاء ويحجبها عمّن يشاء. بيشتغل على مزاجو الزلمة، ونحنا وأرضنا صرنا رهن له. من أول الصيفية لهلق ما سقينا الأرض إلا مرة وحدة ومن بعد ما دفعنا هيديك الحسبة».
بحسب أحد المطلعين على الملف، إن «م. ح. من أبناء نمرين، وسكان محلة باب التبانة في طرابلس، عيّن بصفة شاوي على نبع السكر من قبل رئيس البلدية مصطفى عربس. وقد كشف في حديث مع «الأخبار» أن م. ح. بحجة امتلاكه لأرض زراعية تمر فيها قناة ري أساسية لنبع السكر، بات يحتكر مياه النبع. يتسمر في المكان مع أربعة من «زلمه» شاهرين أسلحتهم. يطالب أبناء نمرين والقرى المجاورة بدفع مبالغ مالية خيالية لقاء السماح لهم بالاستفادة من مياه النبع التي هي ملك لكل أهالي الضنية. يحوّل المياه إلى القنوات التي يريد، ويتحكم بالـ«سكور» الموجودة. لا أحد يجرؤ على الاقتراب منه لأنه «مدعوم من رئيس البلدية وأحد الأمنيين المعروفين في المنطقة». ويضيف الراوي: «أكثر المتضررين هم أبناء بلدتي قرصيتا والسفيرة، لأن المياه تمر بعدد كبير من القرى قبل أن تصل إلى حقولهم. وبعدما نفد صبر المزارعين، أُلفت لجنة من 20 شخصاً من فاعليات قرى الضنية، تعمل على عقد اجتماعات لحل المشكلة، وحقن الدماء بين أهالي المنطقة الواحدة». وعلمت «الأخبار» أن مصلحة مياه الضنية تقدمت بشكوى ضد الممارسات التي يقوم بها م. ح. عند نبع السكر، إلى محافظ الشمال رمزي نهرا.
كذلك أدى شحّ المياه وانقطاعها عن قرى الضنية إلى وقوع العديد من المشاكل بين المزارعين أنفسهم. ففي بطرماز التي تُعَدّ من أفقر مناطق الضنية، سُجِّل الكثير من الخلافات بين المزارعين على أحقية ريّ الأراضي. كذلك ستتحوّل المساحة الزراعية الباقية فيها إلى يباس، ولن يتمكن الأهالي من زراعة أي نوع من الزراعات الصيفية التي كانت قد عادت إلى الحياة في السنوات الماضية، وفق أحد المزارعين. أما بلدتا كفرحبو وعزقي، فيعتمد المزارعون فيهما على نبع سير لريّ حقولهم. ونتيجة لسوء حال قنوات الري، وتسرب جزء كبير من المياه فيها، عانت البلدتان باكراً من شح المياه. وقد آثر مزارعوها الاستعاضة عن زراعة الفاكهة التي تحتاج إلى كميات كبيرة من المياه، بزراعة الخضار الصيفية كالبندورة الجردية واللوبياء.
أما في المنية، التي تراجعت فيها نسبة الزراعة مع الهجمة العمرانية الأخيرة بنسبة 80%، فقد أدت قلة المتساقطات إلى جفاف عدد كبير من الآبار التي يحفرها الأهالي في أراضيهم عشوائياً بغية الاستفادة من المياه الجوفية للشرب والاستخدام المنزلي. ويشير أحد المزارعين إلى أن «كمية المياه التي تصل إلى المنية من نهر البارد ونبع عيون السمك كافية لسدّ حاجة المزارعين، لو وُزِّعت بنحو صحيح، ومنع اختلاطها بمياه الصرف الصحي». وأردف: «لو أن الدولة اللبنانية تلتفت إلى منطقة الضنية وتستغل منابع المياه فيها بنحو صحيح، لوفرت على نفسها وعلى مواطنيها الكثير من العناء».