رهبة المكان التاريخية التي تفرض نفسها ومجالسة أمير شهابي، توحي بأن التاريخ قرر أن يكون حيّاً أمام زواره المهتمين به. الأكيد في الأمر أن الدولة ليست زائراً ولو موقتاً لهذا التاريخ. غائبةٌ عن أمجاد تاريخها مثل غيابها عن حاضرها ومستقبلها. يروي «المير» منذر مباشرةً تاريخ هذه القلعة من دون الحاجة إلى السؤال حتّى، فلا أحد يأتي إلى هنا سوى لمعرفة أسرارها. يبدأ من مكان جلوسنا في «الفسدقية» التي كان يجلس فيها الأمير منصور حاكم جبل لبنان منذ 254 سنة.

نلتفت إلى الكنيسة المطلة من النافذة فيعود المير بالزمن إلى أبعد من ذلك «كانت هذه الكنيسة مخصصة للجنود الصليبيين في عهد الكونت أورا دو بربون». كل حجر في هذه القلعة لديه رواية كاملة يحفظها المير عن غيب ولا يتردد في إخبارها لجميع من يرتاد هذا المكان. لا تقتصر ذكريات «المير» على تاريخ القلعة، إنما لذكريات طفولته جزء مهم مرتبط بها عندما كان يستكشف الأنفاق الممتدة تحتها والتي كانت عبارة عن منافذ للهرب، هو الذي وُلد في هذه القلعة. الكلام عن تاريخ القلعة يطول لمدة 3500 سنة. أنفاق الرومان، شعار آل بوربون، مباني الصليبيين... جميعها تُخبر قصصاً كثيرة ليتحوّل التاريخ من مادة جافة إلى متعة لا تضاهى عندما تراه أمامك، وتتنشق رائحته. ميزة القلعة ليست في تاريخها فقط، إنما لحاضرها خصوصيتان تميّزانها عن جميع الأماكن التاريخية. هذه القلعة أولاً ملك خاص تتوزع ملكيتها على ما يقارب خمسين شخصاً معظمهم من آل شهاب او اقاربهم. ميزتها الثانية هي أنها القلعة التاريخية الوحيدة المأهولة في لبنان؛ نعم يعيش هنا «مفيد، عادل، منذر».

قلعة يروي
سكانها تاريخها هي ميزة وليست عائقاً



يستمر منذر، البالغ من العمر 81 سنة، برواية تاريخ القلعة من دون أن يترك لنا مجالاً كي نسأل. يدخل من تلقاء نفسه في جوهر الموضوع مع فتح باب قاعة ابراهيم باشا المهملة: «شو بدنا نعمل بهالدولة؟ آخر همها ما حدا سألان». عدنا إلى الحاضر لنروي قصة جديدة من قصص الدولة الفاشلة. هذه القلعة، التي تعتبر الجزء الرئيسي من المجمّع الشهابي الذي يغطي مساحة 20 ألف متر مربع، لا تعنيها «فهي ملك خاص». المرة الأخيرة التي التفتت فيها إلى القلعة كانت عام 2001 عندما أرسلت وفداً من المديرية العامة للآثار يضم 5 اختصاصيين ضمن مشروع «الدراسة التفصيلية لإعادة تأهيل سرايا حاصبيا». وضع القلعة اليوم مزرٍ جداً، بعض الأجنحة معرّضة للانهيار نتيجة تسرّب المياه أسفلها، والأبراج تتصدّع يوماً بعد يوم، إضافة إلى الإهمال الكبير الذي يسيطر عليها. باحة القلعة أصبحت موقفاً للشاحنات والسيارات، والطابق الثاني يضم مركزاً للحزب الديمقراطي اللبناني نظراً لتملّك رئيس الحزب طلال أرسلان حصّة فيها نتيجة صلة القرابة مع آل شهاب. حتى أن جدرانها تتحول في بعض الأحيان إلى لوحة ملصقات إعلانية! فالقلعة تتوسط بلدة حاصبيا ويمر بجانبها طريق أساسي. عام 2001 كانت تكلفة الترميم 6 مليون دولار أما اليوم فالتكلفة أكبر بكثير.
يتأسف القاطنون هنا على الحال التي وصلت إليها «قلعتهم». يوضح منذر أنّه على الرغم من أن «القلعة ملكية خاصة إلّا أن الهيئة العامة اللبنانية للآثار أدرجتها عام 1962 على قائمة الأماكن التاريخية» وبالتالي يصبح ترميمها والحفاظ عليها مسؤولية عامة وتاريخية للحفاظ على الذاكرة الجماعية لأبناء الوطن. لكن من قال إن الدولة تهتم بالذاكرة الجماعية؟ على العكس هي تسعى بكل قوتها إلى تدميرها والقضاء على النسيج الاجتماعي الذي يكونها وهذا ما يحصل في أماكن عديدة. يكمل أنّ «الدولة آنذاك امتلكت حصة من كل عقار كي تقوم بعمليات الترميم والإصلاح، لكنها لم تنفّذ هذا الاتفاق». ترى كارلا شهاب، رئيسة المؤسسة اللبنانية للمحافظة على السراي الشهابية، أن «القلعة في خطر كبير نتيجة التصدعات وتفتت الأحجار وتفكك العقود. حاولنا كثيراً إنقاذها لكن لم يستجب أحد لا الدولة ولا المنظمات الدولية. اقترحنا، نظراً للتكلفة الكبيرة التي يتطلبها الترميم الشامل، أن نبدأ بوقف الخراب وتدعيم الأساسات لمنع انهيار بعض الجدران، على أن يصار لاحقاً إلى تأهيل القاعات والغرف إلاّ أن الأموال لم تتوفر». من جهتها تشكو مي زوجة منذر، تعامل الدولة مع أبسط الأمور «طبعت وزارة السياحة ملصقات عن بلدة حاصبيا تضم نبذة عن السرايا الشهابية، عندما اذهب إلى الوزارة كل فترة لأخذ كمية من أجل توزيعها على السياح الذين يقصدونها يتحوّل الأمر إلى عملية شحاذة!». حجة الدولة الأساسية هي أن القلعة ملك خاص وبالتالي فإن عملية ترميمها تحتاج إلى اتفاقات. هذه الحجة تسقط عندما تظهر رغبة المالكين الكبيرة بالحفاظ على تاريخ عائلتهم الخاص وتاريخ لبنان. هؤلاء ما انفكوا يناشدون الدولة أن تنقذ هذا الصرح ويعترفون أن دعوتهم هذه لا تعني أنهم سيخرجون من القلعة «عليهم أن يرمموها ونحن قاطنون فيها، لا نريد أن نخرج»، لتقاطع مي الحديث «منذر روحو معلقة بالسراي مستحيل يطلع منها». ما تعتبره الدولة عائقاً هو على العكس ميزة جاذبة: أن يروي لك «أمير» تاريخ «منزله» وأجداده، ما يشكل قيمة إضافية لتاريخية هذه القلعة، وهؤلاء هم أفضل من يمكن أن يؤتمن للمحافظة عليها. تشير كارلا إلى «وجود حلول عدة يمكن طرحها في هذا الصدد إذا وضع مشروع جدي للترميم والتأهيل». كذلك فإن تنظيم السياحة إلى القلعة يمكن ان يشكّل دخلاً مقبولاً. منذ سنتين قام المغترب وائل شهاب بشراء القسم الأكبر من الطابق الثالث ليصبح مالك الحصة الكبرى في هذه القلعة. الهدف من الشراء بنظر القاطنين هو الشروع في عملية ترميم إلاّ أنه حتى اليوم لا يزال الهدف غير محدد. لا يخافون على القلعة طالما أنها بيد أفراد العائلة الشهابية، تقول مي: «لا أحد من الغرباء يشتري هنا. تأتينا عروضات من أجل البيع لكن لا أحد يبيع لخارج العائلة». هذا القرار لم ينتج من عبث إذ أن التاريخ نفسه علّمهم أن لا يكرروا الخطأ ذاته. تروي سهى شهاب أنّ «قلعة راشيا كانت ملكاً للشهابيين وكانوا يقطنون فيها لكن عندما غادروها لم يتبق فيها أحد فأخذتها الدولة».
تاريخ آل شهاب وتاريخ المنطقة بكاملها التي حُكمت فترات طويلة من هذه القلعة، في خطر. الدولة مطالبة على وجه السرعة بأن تنقذ هذا التاريخ البالغ الأهمية. سواء كان ملكاً خاصاً أم ملكاً عاماً تنتفي الملكية هنا ليسيطر التاريخ من أجل أن يحافظ على المكان وذاكرته. «كنا حكام لبنان، لا أزال أحتفظ بمجد جدودنا بصفتي أمير شهابي» هكذا ينهي منذر حديثه لكنه يصر على ذكر شعار الشهابيين (الأسد المقيّد والأرنب الطليق) المحفور على مدخل القلعة: «عندما يحكم الشهابي يكون القوي مقيّد والضعيف طليق، وهذا يرمز إلى العدالة».